الملف السياسي

القدس في البدء كانت «اليونسكو»

18 ديسمبر 2017
18 ديسمبر 2017

عماد عريان -

اعتبرت قرارات اليونسكو أنه من الضروري مطالبة إسرائيل بإعادة الآثار الـمنهوبة وتزويد مركز التراث العالـمي في اليونسكو بتوثيق واضح لـما تمت إزالته من آثار ومطالبة إسرائيل كذلك بتمكين الأوقاف الإسلامية الأردنية من تنفيذ تصميم مشروع إعادة ترميم طريق باب الـمغاربة.

في خضم معركة رئاسة «اليونسكو» قبل أسابيع قليلة، والتي فازت بها في نهاية المطاف وزيرة الثقافة الفرنسية، اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارا بالانسحاب من المنظمة احتجاجا على مواقفها الرافضة للممارسات الإسرائيلية والمؤيدة للحقوق الفلسطينية في مدينة القدس وأقصاها الشريف خاصة ما يتعلق برفض تغيير معالم المدينة وهويتها العربية/‏‏الإسلامية والحفاظ على معالمها الكبرى بأسمائها التاريخية في رفض صريح لمحاولات تهويد المدينة، فهل كان هذا القرار- قرار الانسحاب من اليونسكو- هو التمهيد الصريح لخطوة الرئيس الأمريكي الصادمة للعالم أجمع بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها؟

أغلب الظن أن الارتباط بين الخطوتين قائم وواضح، فلا شك في أن عشرات وربما مئات القرارات الدولية، سواء تلك الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة أو غيرها من هيئات ومؤسسات أخرى على مدى سبعة عقود من الزمان، حفظت للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، ولو في حدودها الدنيا، وباتت تلك الحقوق بالفعل غير قابلة للتصرف حتى ولو أقدمت دولة أو أكثر على اتخاذ قرارات سياسية تخالف الثوابت الدولية، على غرار قرار ترامب الأخير باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل . وإذا كان القرار رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سبعين عاما بالضبط بشأن تقسيم فلسطين عام 1947 قد طالب بالإبقاء على وضعية خاصة لمدينة القدس، فهناك قرار دولي آخر لا يقل أهمية قد صدر قبل خمسين عاما بالضبط وهو القرار رقم 242 بعد حرب عام 1967، والذي ينص على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة إلى حدود الرابع من يونيو 1967 وبالتأكيد يشمل القرار مدينة القدس بأقصاها الشريف وكل مقدساتها، وكذلك شهدت مثل هذه الأيام من العام الماضي أقوى قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي بموافقة أمريكية «نادرة» بتجريم الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، ما يعني أن مبدأ «وضع اليد» أو الاعتراف بالأمر الواقع، لا محل له في السياسة الدولية حتى لو تمكنت قوة أو أخرى تكريسه لفترة من الزمن نتيجة ظروف معينة ترتبط بموازين القوى أو طبيعة وشكل منظومة العلاقات الدولية، وليس خافيا أن هذا القرار قد صدر قبيل مغادرة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما الديمقراطية وعشية تولي الإدارة الجمهورية بزعامة ترامب، الأمر الذي جعله يستشيط غضبا!

كل تلك القرارات الدولية المشار إليها، ظلت في الغالب حبيسة الأدراج دون أن تجد إرادة سياسية دولية حقيقية لوضعها قيد التنفيذ الميداني لأسباب عديدة يطول شرحها وربما تم تناولها مرارا من قبل في تحليلات سابقة عديدة، ولكن أهميتها تبقى قائمة كونها ذات حيثية سياسية ومعنوية عميقة الدلالة ولا تسقط بالتقادم مهما مرت السنون ، وفي هذا الصدد من المهم العودة مجددا إلى مسألة اليونسكو ودورها المؤثر في الحفاظ على هوية القدس العربية /‏‏ الإسلامية، ما أثار حفيظة واشنطن - وبالقطع الكيان الصهيوني - إلى حد الانسحاب ومهاجمة المنظمة بشراسة، فهناك بالفعل صلة وثيقة بين قرارات اليونسكو والموقف الأمريكي الجديد والاندفاع الإسرائيلي نحو فرض مزيد من الهيمنة الصهيونية على القدس والأقصى وتكريس أمر واقع مختلف في إطار مخطط شامل لتهويد المدينة وإلغاء فكرة اعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة ومصادرة أحلام وتطلعات كل الشعوب الراغبة في تخليص مدينة مسرى الرسول الكريم وثالث الحرمين من الاحتلال الغاشم.

ويعني ذلك أن قرارات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» التي تمثل بالفعل قيمة مضافة عظيمة للمواقف الفلسطينية والعربية والإسلامية يمكن البناء عليها، بينما تمثل خصما واضحا من رصيد الاحتلال بما يمهد الطريق أمام أصحاب القضية لتحقيق المزيد من المكاسب المشروعة والعادلة، ومن المهم في هذا المقام الإشارة إلى أن قرارات اليونسكو الأخيرة التي صدرت على مدار الأشهر الماضية قد تبنت مجموعة من المبادئ المتعلقة برفض تهويد القدس بتأكيدها على عدم شرعية أي تغيير أحدثه الاحتلال «الإسرائيلي» في بلدة القدس القديمة ومحيطها، وذلك بناء على الـمواثيق الدولية مثل مواثيق جنيف ولاهاي وقرارات اليونسكو والأمم الـمتحدة والتأكيد على أن أي تصرف لا يؤثر على الوضع القانوني للقدس كأرض محتلة بحسب قرارات الأمم الـمتحدة ومجلس الأمن الدولي الـمتعلقة بفلسطين، علاوة على الإدانة الشديدة ومطالبة سلطات الاحتلال بالوقف الفوري لجميع أعمال الحفريات غير القانونية التي تنفذها مجموعات الـمستوطنين بطريقة تمثل تدخلات صارخة ضد آثار القدس.

واعتبرت قرارات اليونسكو أنه من الضروري مطالبة إسرائيل بإعادة الآثار الـمنهوبة وتزويد مركز التراث العالـمي في اليونسكو بتوثيق واضح لـما تمت إزالته من آثار ومطالبة إسرائيل كذلك بتمكين الأوقاف الإسلامية الأردنية من تنفيذ تصميم مشروع إعادة ترميم طريق باب الـمغاربة، مع الإدانة الشديدة لاستمرار إسرائيل في منع بعثة الـمراقبة والخبراء التابعة لليونسكو من الوصول إلى مدينة القدس وأسوارها والإبقاء على «بلدة القدس القديمة وأسوارها» على قائمة التراث العالـمي الـمهدد بالخطر، كموقع مسجل من قبل الأردن عام 1981، وهناك قرار مماثل صدر عن الـمجلس التنفيذي لليونسكو في أكتوبر من العام الماضي 2016 ينفي وجود صلة بين اليهودية والمسجد الأقصى، وتماما كالقرار السابق فإن القرار الجديد أشار إلى المسجد الأقصى باسمه «المسجد الأقصى/‏‏الحرم الشريف» دون استخدام «جبل الهيكل» وهو ما أغضب إسرائيل، وكم كان لافتا بعد أسابيع قليلة من صدور هذا القرار صدور قرار آخر من (اليونسكو) باعتبار مدينة الخليل في الضفة الغربية المحتلة (منطقة محمية) من التراث العالمي، وصوتت اليونسكو بأغلبية ظاهرة على إدراج البلدة القديمة في الخليل في الضفة الغربية المحتلة، على قائمة التراث العالمي، وتضم الخليل التي يسكنها أكثر من 200 ألف فلسطيني وعدة مئات من المستوطنين اليهود الحرم الإبراهيمي الشريف.

وفي ضوء هذه المواقف القوية يمكن القول بلا تردد أن قرارات اليونسكو وحدها هي قيمة سياسية عظيمة للقضية الفلسطينية، وتؤكد كذلك أن قرارات ترامب الأخيرة بشأن نقل السفارة باطلة وانعكاس لحالة يأس سياسي فرضته ظروف داخلية على الرئيس الأمريكي جعلته يتصرف على هذا النحو من عدم الإلمام السياسي والتاريخي الفريد من نوعه خاصة فيما يتعلق بوضعية القدس والتطورات الميدانية للصراع الشرق أوسطي، وهذا الخلط الغريب بين «سياسة الأمر الواقع» والقبول بها، فالرئيس ترامب وكما هو معلوم للقاصي والداني يواجه شبح العزل من منصبه بسبب فضائح التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر الماضي، تلك القضية التي تلاحقه حتى قبل أدائه اليمين الدستورية وتهدد بتحويله إلى بطة عرجاء في أول واقعة من نوعها تطارد رئيسا أمريكيا عبر تاريخ الولايات المتحدة، هذه الحقيقة جعلت الرئيس الأمريكي لقمة سائغة لجماعات الضغط الصهيونية التي يبدو أنها باتت تمتلك مفاتيح إدانته وعزله أو براءته واستمراره، فقرار نقل السفارة واعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني ليس هناك ما يبرر صدوره الآن مع تواتر الحديث عن صفقة القرن لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إلا تلك الضغوط التي يتعرض لها ترامب، فأراد أن ينجو برقبته من خلال البوابة الصهيونية، أليس غريبا أن يقوم ترامب بكل هذا التصعيد ضد كوريا الشمالية ويهددها بأعمال انتقامية لا تخطر على بال عقابا لها على تجاربها الصاروخية والنووية، ويوم يقرر التصرف فإنه يقدم على معاقبة الفلسطينيين؟!!