أفكار وآراء

حقوق الإنسان في زمن الحرب على الإرهاب

17 ديسمبر 2017
17 ديسمبر 2017

أ.د. حسني نصر -

احتفل العالم الأسبوع الماضي باليوم العالمي لحقوق الإنسان، إحياء لذكرى اعتماد الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر من عام 1948. وعندما يحتفل العالم العام القادم بنفس اليوم سيكون قد مر على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سبعون عاما بالتمام والكمال، شهدت صراعا مريرا بين من يدافعون عن هذه الحقوق، وبين من يقللون من أهميتها ولا يمانعون في انتهاكها بمزاعم كثيرة، آخرها الحرب على الإرهاب.

ولعل من المفيد ونحن نحتفل بهذا اليوم العالمي أن نعيد طرح الأسئلة التي يرددها كثيرون حول العالم حول واقع حقوق الإنسان في ظل توحش وباء الإرهاب الذي أصبح يهدد الدول والمجتمعات والأفراد، والذي دفع دولا عديدة في العالم إلى إصدار قوانين واتخاذ تدابير عديدة لمواجهته، مثلت في حد ذاتها انتهاكا لحقوق وحريات الإنسان الأساسية، وجعلت إنسان الألفية الثالثة يقع بين مطرقة تعطيل تمتعه بحقوقه، وبين سندان إرهاب جماعات العنف المسلح.

الخطير في الأمر أن المد الدولي الذي يضحي بحقوق الإنسان الأساسية في بعض دول العالم من اجل مكافحة الإرهاب، يواكبه مد شعبويّ مماثل لا يكتفى بالموافقة على هذه التضحية، ولكنه يطالب أيضا بمزيد من الانتهاكات للحقوق الأساسية للإنسان المختلف، ويتجلى ذلك في صعود ما يسمي باليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية التي كانت تفاخر حتى وقت قريب بأنها الأكثر احتراما لحقوق الإنسان.

علينا أن نقر أولا بحق الدول والشعوب أن تواجه الإرهاب بكل ما أوتيت من قوة، ولكنها في الوقت نفسه يجب أن يكون لديها تعريف واضح للإرهاب والعمليات التي يمكن وصفها بذلك، وكذلك يجب ألا تعرض هذه المواجهة حقوق الإنسان فيها للانتهاك، إذ أن هذا الانتهاك الذي ترعاه الدولة قد يولد إرهابيين جددا، ويدخلها في دائرة مفرغة لا تنتهي من العنف والعنف المضاد. في ضوء هذا الإقرار، دعونا نسترجع بعض الحقوق الإنسانية الأساسية التي تهدرها الدول أثناء حربها على الإرهاب، نتيجة إعلان حالة الطوارئ وتبني قوانين فضفاضة وغامضة لمكافحة الإرهاب. لعل أهم ما يؤخذ على هذه التدابير أنها تأتي متسرعة في أعقاب عمليات إرهابية كبيرة وتكون رد فعل أكثر من كونها فعلا متعقلا ومتأنيا، إذ نادرا ما تحظى مثل هذه القوانين والتدابير بنقاش مجتمعي موسع أو حتى مداولات برلمانية هادئة، ويتسابق أعضاء المجالس النيابية عادة إلى الموافقة عليها جملة ودون التطرق إلى التفاصيل، خشية اتهام من يعارضها منهم بالتعاطف مع الإرهاب.

والواقع أن غالبية المشكلات الإنسانية الناجمة عن قوانين مكافحة الإرهاب التي لجأ إليها العديد من الدول في السنوات الأخيرة، تتعلق بعدم وجود تعريف عالمي للإرهاب، وهو ما شجع هذه الدول على استغلال هذه القوانين للعصف بحقوق إنسانية أساسية مثل الحق في الحياة، والحق في محاكمات عادلة، والحق في التعبير وغيرها من الحقوق التي أصبحت مهددة بشكل كبير. وعلى سبيل المثال وليس الحصر اعتبر القانون الصيني الصادر في يناير 2016 نشر معلومات عن جماعات تعتبرها الحكومة إرهابية أو مناصرة لتلك الجماعات بالقول أو الكتابة جريمة إرهابية، وهو ما يهدم الحق في الإعلام والتعبير. ويعتبر القانون الكندي لمكافحة الإرهاب الصادر في عام 2015 الدعوة أو الترويج لجماعة إرهابية، جريمة، رغم انه لم يقدم تعريفا لمصطلح جرائم الإرهاب. واستغل المشرع الإسرائيلي قانون مكافحة الإرهاب الصادر في عام 2016 لانتهاك الحق في التعبير وذلك بتجريم رفع أعلام أي جماعة تعتبرها الحكومة جماعة إرهابية أو ترديد نشيدها. وفي فرنسا أصدر القضاء في الثالث عشر من يناير 2015 أولى الإدانات بتهمة «تمجيد الإرهاب»، وهو جرم جديد - وفقا لقناة فرنسا 24- أدرج في القانون الجنائي الفرنسي إثر الاعتداءات الإرهابية التي وقعت في باريس في نفس الشهر وأدت إلى مقتل 17 شخصا، إذ حكم على شاب بالسجن، بعد أن أعرب في وسيلة نقل عام عن تضامنه مع منفذي الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة، كما حكم على آخر بالسجن بعدما نشر على صفحته على فيس بوك صورا لجهاديين وتصريحات تبرر هجمات باريس. وتعد قوانين الطوارئ من القوانين التي تستهدف محاربة الإرهاب، ولكنها تفتح المجال في الوقت نفسه لإساءة استخدامها وتوظيفها من جانب الحكومات للاعتداء على حقوق الإنسان الأساسية. وقد لجأ عدد من الدول إلى هذه القوانين سيئة السمعة ردا على عمليات إرهابية وقعت على أراضيها. ولا جدال في حق الدولة في فرض قيود على الحقوق والحريات الأساسية لمواطنيها أثناء الكوارث والأزمات الطارئة وفي زمن الحرب، بل ان قيام الدولة التي تشعر بالخطر بإعلان حالة الطوارئ وإصدار القوانين الخاصة هو حق يعترف به القانون الدولي. المشكلة أن حالة الطوارئ التي يتضح من مسماها أنها طارئة ومؤقتة ويجب أن تنتهي بانتهاء التهديدات التي تتعرض فيها سلامة الدولة للخطر، تتحول في بعض الدول إلى حالة دائمة بزعم مكافحة الإرهاب. ويعني استمرار حالة الطوارئ إطلاق أيدي الحكومات في انتهاك حقوق وحريات المعارضين لها. والواقع أن الأمثلة على استغلال بعض الحكومات لقوانين الطوارئ في تعطيل حقوق الإنسان كثيرة، ولكننا نكتفي هنا بأمثلة محدودة .

في الحالة الإثيوبية – على سبيل المثال - تم توظيف حالة الطوارئ التي أعلنت في أكتوبر 2016 بسبب الاحتجاجات على سياسات الحكومة التي اندلعت في منطقة أوروميا في اعتقال الآلاف من المحتجين الذين اعتبرتهم الحكومة «إرهابيين»، وإغلاق الصحف ووسائل الإعلام المستقلة، وفي حالة تركيا أتاحت حالة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في يوليو 2015 اعتقال وفصل عشرات الآلاف من المعلمين والإعلاميين ورجال الشرطة والقضاء والجيش بتهمة انتمائهم إلى منظمة فتح الله جولن «الإرهابية» حسب تصنيف الحكومة لها، بالإضافة إلى إغلاق وسائل إعلام معارضة. أما في فرنسا فقد منح قانون الطوارئ الذي صدر بعد هجمات باريس في نوفمبر 2015 الشرطة حقوقا غير مسبوقة تتعارض ومبادئ حقوق الإنسان مثل مداهمة المنازل وتفتيش السيارات وأجهزة الحواسيب والهواتف دون موافقة مسبقة من السلطات القضائية، بالإضافة إلى مراقبة الأفراد ووضعهم تحت الإقامة الإجبارية بزعم انهم «إرهابيون محتملون».

خلاصة القول إن الحرب على الإرهاب أعادت حقوق الإنسان التي أقرها العالم قبل سبعين عاما إلى المربع الأول. ولعل هذا ما يدفع أنصار حقوق الإنسان إلى التساؤل عن مستقبل هذه الحقوق في عالم لم يعد تشغله كثيرا الدفاع عن تلك الحقوق بقدر ما يشغله استمرار الحرب على الإرهاب، حتى وهو – أي العالم-على يقين تام بان غياب وانتهاك الحقوق الإنسانية هو من الاسباب المهمة ، التي تغذي التوجه نحو الإرهاب بشكل أو بآخر .