1195037
1195037
المنوعات

مؤسسة ترعى المترجمين على أرض كانت مهدا لتعايش أبناء الديانات الثلاث قبل طليطلة

16 ديسمبر 2017
16 ديسمبر 2017

بيت المترجم في «تاراثونا» -

تاراثونا (إسبانيا) «د.ب.أ»: - في أحد مشاهد فيلم دكتور زيفاجو، وقف عمر الشريف يودع قريته الروسية التي أجبر على الخروج منها في جبال الأورال، حيث تغطي الثلوج قمة الجبل الروسي، إلا أن المشهد السينمائي لم يكن في روسيا على الإطلاق بل في مدينة صوريا (شمال شرق إسبانيا)، ولم تكن القمة الجليدية إلا جبل المونكايو الشامخ، هناك توجد بالقرب من سفح الجبل، قرية تاراثونا التي كانت مقرا لأول مدرسة مترجمين في إسبانيا، جمعت أبناء الديانات الثلاث يهودا ومسيحيين ومسلمين على أرض إسبانيا، قبل عقود من إنشاء مدرسة طليطلة التي أسسها الملك ألفونسو العاشر، وعلى أرض نفس المدينة، لا تزال أبواب مؤسسة بيت المترجم مفتوحة لنشر إبداعات المترجمين من جميع أنحاء العالم نقلا عن اللغة الإسبانية.

على مسافة ليست بالبعيدة من قمة الجبل المهيبة التي يعلوها الجليد، تقف مارتا باتاك، المترجمة المجرية في شرفة بيت المترجم، تطل مجددا على المونكايو. كانت مارتا وهي أيضا شاعرة، قد حصلت على منحة من منح مؤسسة بيت المترجم عن عام 2017 مدتها شهر لاستكمال ترجمة رواية الأديب الإسباني رفائيل تشربيس «على ضفة النهر» إلى المجرية، حول الأزمة المالية التي ضربت إسبانيا منذ عام 2008.

في وقت فراغها تأخذ مارتا الدراجة الهوائية وتقوم بجولة في تاراثونا، حيث تنطلق من الحي القديم المكان الذي يتجاور فيه تراث الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية، لتهبط إلى مجرى نهر كييلس، الذي يطوق القرية بالكامل وصولا إلى حافة المونكايو المهيبة.

في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) تقول مارتا «حصلت في أعوام سابقة على منحة بيت المترجم، حيث أنجزت أعمالا مهمة لكتاب مثل رفائيل سانشيث فيرلوسيو، وتربطني به صداقة كبيرة، وقد زرته هذه المرة في بيته بمدريد، ولكن صحته تدهورت في الأيام الأخيرة». وتضيف «هذه الفترة من العام تهب رياح الثيرسو الموسمية القادمة من قمة الجبل، إذا لم تحم وجهك جيدا، فسوف تلتهب عينك ويحمر أنفك.

حينما كان مقر مؤسسة بيت المترجم بجوار النهر كان الأمر أيسر». خلال الرحلة عبر دروب ضيقة يلمح فيها الزائر الطابع العربي للمباني ذات الأقواس الحجرية والطرقات المبلطة بأحجار البازلت، يسمع السائر بجانب صدى خطواته صوت خرير المياه المنسابة في الصهاريج التي بنى فوقها العرب الأوائل هذه المدينة العريقة، بينما تنبعث من البيوت المتلاصقة رائحة خبز نضج على نار الحطب وقهوة طازجة ونكهات توابل تسترجع أزمنة المعتمد والناصر ( من ملوك المسلمين بالأندلس) حينما كان التعايش ممكنا على أرض الأندلس.

تجدر الإشارة إلى أن مؤسسة بيت المترجم أنشئت بمبادرة من المترجم الإسباني فرانثيسكو اورتيث عام 1988، على غرار مؤسسة بيت المترجم الألمانية التي أنشئت قبلها بعشرة أعوام بمبادرة من المترجم الألماني المار توبهوفن، في بلدة شترلين.

بحسب وثائق المؤسسة، بدأ عصر النهضة في أوروبا ثقافيا، من إسبانيا، في القرن الثاني عشر، مع ازدهار حركة الترجمة من العربية إلى اللغات المنشقة عن اللاتينية، وبدأت إسبانيا بالتزامن مع حركة الاسترداد ( استرجاع مدن الأندلس من المسلمين)، نقل المعارف التي أنتجها العرب نتيجة اتصالهم العميق على مدار قرون بالحضارات الإغريقية والفارسية وغيرها، وبدأ يتوافد على مدن إسبانيا مثل توديلا، وتاراثونا وطليطلة وبرشلونة التي انطلقت منها حركة الترجمة، الكثير من علماء ومثقفي أوروبا المهتمين بنقل هذه العلوم عن العربية.

أبرز الأسماء التي يحفظها لنا التاريخ هو المترجم هوجو سانكتللنيسيس (Hugo Sanctelliensis) في العام 1145م، أي قبل ما يربو على 870 عاما من الآن، وقبل قرن من إنشاء مدرسة المترجمين في طليطلة والتي تعتبر الأشهر في كل إسبانيا والعالم، ولكنها أنشئت في القرن الثالث عشر. كان هوجو بارعا في الترجمة من العربية بحسب ما تؤكده النصوص التي نقلها عن هذه اللغة التي ظلت اللغة الرسمية لشبه جزيرة أيبريا أثناء الحكم الإسلامي قرابة ثمانية قرون.

بحكم عمله كرجل دين، خدم هوجو في كتدرائية تاراثونا، والتي تعتبر الآن بحسب وصف مسؤولة قطاع الثقافة ببلدية المدينة، بالدسكا نابارو بيلا، أحد نقاط الجذب الثقافي والسياحة التاريخية والدينية في الوقت الراهن. وقد استمر هوجو يمارس مهام الترجمة في تاراثونا لعدة سنوات موقعا أعماله ويسبق اسمه لقب المايسترو، وهو ما يعكس المكانة العلمية التي كان يتميز بها.

يمكن في الوقت الراهن إحصاء أكثر من عشرة كتب ترجمها هوجو من العربية إلى اللاتينية في تاراثونا وحدها وهو إنجاز كبير بمقاييس العصر. كان هوجو يمارس عمله تحت رعاية أسقف كاتدرائية تاراثونا ميجل كورنيل الذي كان يدفع راتبه ويوفر له المواد اللازمة لإنجاز مهامه الترجمية. توضح بالدسكا أنه منذ إنشائه على غرار مدرسة المترجمين، يحرص بيت المترجم على توفير مناخ ملائم لكي يمارس المترجمون عملهم، فبالإضافة إلى الغرف المريحة ذات النوافذ العريضة المطلة على فضاء المدينة بالكامل وجبلها العتيد الحامي، يتوافر بالبيت مكتبة ثرية بكتبها وقواميسها من مختلف اللغات، وخدمة إنترنت فائق السرعة بالإضافة إلى أثاث مريح وإضاءة صحية ليلا ونهارا وتدفئة مركزية، تقي الممنوحين رياح الثيرسو الجليدية.

بالإضافة إلى الجانب العلمي هناك أيضا الجانب اللوجيستي، فالمنزل، وهو في الحقيقة قصر منيف مشيد على غرار فن المدجنين المعماري، الهجين بين الطابعين الإسلامي والمسيحي، يضم مطبخا فسيحا مجهزا بكل ما يحتاجه الوافد للإقامة بصورة مريحة، فضلا عن جو الألفة الذي ينشأ بين المترجمين من مختلف دول العالم حين يلتقون في هذا الفضاء الصغير، ليصبح فن الطهي جسرا بين ثقافات.

تؤكد بالدسكا، التي تولت الإشراف على مؤسسة بيت المترجم في تاراثونا منذ عامين ونصف حرصها على مشاركة المترجمين الوافدين على المؤسسة في كل الفعاليات الثقافية التي تنظمها بلدية المدينة، وكان آخرها معرض كتاب تاراثونا، حيث شارك من مصر المترجم طه زيادة مع المترجمة المجرية مارتا باتاك في ندوة ترجمة الشعر التي أقيمت على هامش المعرض خلال شهر نوفمبر، بمشاركة الشاعر الإسباني أجوستين بوراس، والتي تناولت إشكاليات ترجمة الشعر من لغات مختلفة، وقرأ المشاركون ترجمات شعرية بلغاتهم الأصلية.

وتوضح بالدسكا مدى حرص مؤسسة بيت المترجم على مشاركة مترجمين عرب وخصوصا من النساء في أنشطة ومنح المؤسسة، مؤكدة استعدادها لتقديم منح لمترجمات شابات من العالم العربي خلال الأعوام القادمة، خاصة بعد الاطلاع على التجربة الإيجابية لمشاركة مترجمين من مصر وإيران في السنوات الماضية، من بينهم الشاعر أحمد يماني، والأديب والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف والشاعر محسن عمادي من إيران.

يعمل بالمؤسسة مسؤولان، إنريكي ألدا وهو منسق الأنشطة ودينامو فعالياتها، وهو في الأصل مترجم حاصل على ليسانس الترجمة من جامعة سلمنكة، أعرق جامعات إسبانيا، ويمارس مهنة الترجمة منذ أكثر من عشرين عاما، ومتزوج حاليا من موسيقية إيرلندية، وقد حصل على منح من مؤسسات بيت الترجمة في إيرلندا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا، ويحرص على التنسيق بين وسائل الإعلام المختلفة مثل راديو كادينا سير أو تليفزيون أراجون وغيرها من الوسائل المرئية والمسموعة للاحتفاء بأنشطة المترجمين في بيت المترجم.

أما آنا فتقوم بأعمال السكرتارية وغيرها من المهام الإدارية وتعتبر همزة الوصل بين المؤسسة والجهات الحكومية المختلفة.