أفكار وآراء

هل يعود الشرق الأوسط إلى صراع الوجود مرة أخرى ؟!

16 ديسمبر 2017
16 ديسمبر 2017

د. عبد العاطى محمد -

المبررات المباشرة التي طرحت من جانب ترامب وفريقه لم تكن مقنعة على الإطلاق. فقد قال ترامب إنه أراد أن يفي بوعده للناخبين عندما شدد خلال حملته الانتخابية على أنه سيوقع على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها في حال فوزه، وها هو يفي بوعده لناخبيه.

منذ اندلاع الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948 وأدبياته الفكرية والسياسية تتحدث عن نظرتين مختلفتين تماما حول طبيعة هذا الصراع: أهو صراع وجود أم صراع حدود؟. ولأسباب عديدة تتعلق بتوازنات القوى بين العرب والإسرائيليين والتنافس على النفوذ في الشرق الأوسط بين القوى الكبرى في العالم، سادت النظرة الثانية سياسيا، بينما ظلت جذوة النظرة الأولى متقدة عقائديا في مخيلة الشعوب العربية والإسلامية لا تنطفئ أبدا.

وقد أعاد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتراف الولايات المتحدة بأن القدس هي عاصمة إسرائيل والتوجيه بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، قضية الصراع في الشرق الأوسط إلى نقطة البداية قبل نحو 70 عاما بأنه صراع وجود أكثر من كونه مجرد صراع حدود. ولكن الخطورة هذه المرة هي أن القرار أضفى الطابع الديني على صراع الوجود، دافعا الشرق الأوسط بذلك إلى كارثة حقيقية. فالقدس ليست فقط أرض عربية محتلة يتعين تحريرها، وإنما هي جزء لا يتجزأ من الوجدان والعقل العربي والإسلامي، ومهبط الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلامية، والمساس بها بخطوة أحادية هو بمثابة تدمير لهذا الوجدان من ناحية، وإشعال للحروب الدينية في المنطقة من ناحية ثانية.

للوهلة الأولى بدا قرار ترامب تصرف غير مدروس. ولكن ما تزامن من تعليقات من جانب المحيطين بالرئيس الأمريكي أفادت بأنه اتخذ قراره بعد دراسة ومشورة ودراية بالتبعات التي تحدثها داخل وخارج الولايات المتحدة. وما يعزز ذلك أن ترامب لم يشأ أن يفاجئ الأطراف المعنية بالصراع في المنطقة بالقرار، وإنما أجرى اتصالات بقادة هذه الأطراف. وما كان له أن يجرى هذه الاتصالات إلا إذا كان مقتنعا به وعازم بقوة على اتخاذه ولا يقبل المساومة حوله.

معلوم للكافة أن الكونجرس الأمريكي كان قد اتخذ هذا القرار من قبل في عام 1995، وكان تفعيله يحتاج فقط إلى التوقيع عليه من رئيس الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الوقت لم يوقع أي رئيس أمريكي على هذا القرار لاقتناعهم جميعا بخطورة تداعياته من حيث مدى احترام الولايات المتحدة للقرارات الدولية التي شاركت هي نفسها في صياغتها وحسمت الموقف بالنسبة للقدس على أن مصيرها يتقرر بالحل النهائي للقضية الفلسطينية. ولكن ترامب هو الرئيس الوحيد الذي شذ عن مواقف أسلافه بتوقيعه القرار .

ولو تراجع ترامب- فرضا- فإن ذلك لن يغير من الوضع المستجد شيئا؛ لأن الانطباع عن مدلولات القرار سيظل يفعل أثره.

لم يكن الرؤساء الأمريكيون السابقون على خطأ بالتأكيد في رفضهم الانصياع لقرار الكونجرس هذا, ولا كانوا أقل جرأة من ترامب، ولكنهم ظلوا يميزون بين الاعتبارات الداخلية، وبين ما يجب أن يقوم به من هو على رأس البيت الأبيض من مواقف وسياسات تعبر عن الولايات المتحدة كدولة عظمى ومعنية باستقرار وسلام منطقة ساخنة مثل الشرق الأوسط، وكانت لديهم خيارات عديدة لإرضاء إسرائيل واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة دون الانصياع لقرار الكونجرس المذكور.

وما ساعدهم على ذلك أن الولايات المتحدة كانت متحدة بالفعل على الصعيد الداخلي مهما كانت قوة الخلافات الحزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين ولا أيضا تباينات نظرة الشعب الأمريكي لأداء السلطة في واشنطن العاصمة (الموقف الشعبي من المؤسسات). إلا أن الانتخابات العامة الأخيرة التي جاءت بترامب إلى السلطة كشفت لأول مرة عن انقسام حاد بين الأمريكيين شعبا ومؤسسات وأحزاب، فجاءت إلى الحكم رئاسة مسكونة بالقلق المستمر، حيث تعانى من المطاردة السياسية كل يوم، وللدفاع عن بقائها تلجأ إلى اتخاذ مواقف «شعبوية» بعيدا عن احترام رؤية المؤسسات، وهكذا كانت مواقف وقرارات ترامب مفاجئة وخارجة عن المألوف ومثيرة للجدل وصادمة أيضا حتى لحلفاء الولايات المتحدة، وأحدثها القرار الخاص بالقدس.

المبررات المباشرة التي طرحت من جانب ترامب وفريقه لم تكن مقنعة على الإطلاق. فقد قال ترامب إنه أراد أن يفي بوعده للناخبين عندما شدد خلال حملته الانتخابية على أنه سيوقع على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها في حال فوزه، وها هو يفي بوعده لناخبيه، وبذلك هو أكثر شجاعة من أسلافه الذين أشار إليهم بأنهم كانوا يخافون من اتخاذ قرار كهذا. ولكنه فور فوزه أرجأ اتخاذ القرار (6 أشهر) مثلما كان يفعل أسلافه، وقبل أن تنتهي مدة الأشهر الستة الثانية اتخذ القرار بما يعني أنه إما خضع لضغوط شديدة من أتباعه واللوبي اليهودي، أو استشعر صعوبة الاستمرار في البيت الأبيض على خلفية الملاحقات الشديدة من خصومه بخصوص ما لحق بحملته الانتخابية من شكوك تلقى الدعم من روسيا وأراد بخطوته هذه أن يوجه الأنظار إلى قضية أخرى يعلم أن خصومه لا يستطيعون الصمود فيها حتى لو رفضوها لأنها تتعلق بإسرائيل. ثم فإن اتخاذ القرار لم يكن بدوافع الوفاء بالوعد قدر ارتباطه بالهروب من أزمة داخلية. كما برر موقفه بأن القدس بها مقر الحكومة الإسرائيلية والكنيست والمحكمة العليا وبعثات منظمات دولية وهى بذلك أي بحكم الواقع عاصمة لدولة إسرائيل. ولكنه يعلم جيدا هو ومن أشاروا عليه بذلك أن الواقع المبني على الإكراه والاحتلال لا يعطى لصاحبه شرعية ولا مشروعية، وقد أكدت القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن عدم شرعية هذا الوضع خصوصا بعد أن ضمت إسرائيل القدس الشرقية إلى الغربية عام 1980، وطالبت هذه القرارات بسحب البعثات الدولية منها.

وقيل أيضا إن إرجاء القرار من الرؤساء السابقين كان لحرصهم على أن يكون الإرجاء سببا في دفع عملية السلام إلى الأمام، ولكن هذا لم يتحقق فلا مبرر للاستمرار على الموقف القديم. ولكن هو وإدارته أكدوا منذ وصوله إلى البيت الأبيض أنه مستمر في عملية السلام كوسيط وأنه مع حل الدولتين وخصص مبعوثا للعملية هو صهره اليهودي كوشنر، أي أن العملية يجري إحياؤها ولم تتوقف حتى يتم الحكم بأن الإرجاء لم يفد بشيء.

التفسير الأقرب إلى التصديق هو أن الرجل خضع لمطالب اليمين المتطرف ومن قياداته نائبه بنس الذي لا تعنيه أية ردود أفعال داخلية أو خارجية ولا حتى يضع حسابا للاعتبارات الشعبية الداعمة لترامب وإنما تعنيه اعتبارات إيديولوجية دينية متطرفة مؤداها أن إسرائيل ستشهد يوما ما عودة مسيحية يهودية على أطلال حروب دينية لا مفر منها. ولم يكن غريبا في هذا الصدد أن يعلق نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل بقوله إن ترامب دخل تاريخ إسرائيل بهذه الخطوة. ووفقا لهذا التفسير فإن ما جرى بخصوص القدس هو نقلة نوعية في طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي لم تحدث منذ حرب 1967 وما تلاها من تطورات.

أعادت هذه الخطوة الحياة مجددا للنظرة إلى الصراع على أنه صراع وجود لا صراع حدود. فعندما صدر قرار التقسيم من الجمعية العامة رقم 181 عام 1947 تم تقسيم فلسطين إلى دولتين أحدهما للعرب والأخرى للإسرائيليين، وتلاه وضع القدس تحت الوصاية الدولية. ومعلوم أن العرب رفضوا القرار ونشبت حرب 1948 التي خسروها وقامت دولة إسرائيل رسميا وكانت الولايات المتحدة أول من اعترف بها (رئاسة ترومان). وحتى حرب 1967 ظل التصور العربي للصراع أنه صراع وجود بمعنى أنه لابد أن تعود فلسطين عربية وتزول دولة إسرائيل.

ولكن بعد ما أحدثته هذه الحرب من نتائج خصوصا بعد الموافقة العربية على القرار 242 الذي تضمن الإقرار بوجود دولة إسرائيل، تركز كل الجهد لحل الصراع على أنه تفاوض على تحرير ما أمكن من الأراضي التي احتلت في تلك الحرب وتحول الحديث من فلسطين عربية إلى الأراضي العربية المحتلة ومنها الضفة وغزة. وقامت مسيرة السلام منذ 1991 في مدريد على أساس أن الصراع هو صراع حدود بما فيه إقامة دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل.

قرار ترامب يعود بالصراع إلى طبيعته الوجودية لأنه ألغى طبيعة مسيرة السلام التي هي مفاوضات وتنازلات متبادلة حول الحدود، وذلك لأنه أضفى مشروعية لإسرائيل على احتلالها للقدس الشرقية وقرر فرض إملاءات (لا مفاوضات) إذا ما أراد العرب والفلسطينيون استكمال المسيرة. وزاد الأمر خطورة بأن فتح صراع الوجود الجديد على أفق الحروب الدينية؛ لأن القدس لها اعتباراتها الدينية التي يجب ألا تمس من قريب أو بعيد.