إشراقات

حفظ السر

14 ديسمبر 2017
14 ديسمبر 2017

سلوك طفل مسلم (8) -

القاهرة / أمانى أحمد -

من حكمة الله عز وجل البالغة ورحمته بعباده أن جعل سرائر خلقه له سبحانه وتعالى وحده فهو عز وجل يعلم السر وأخفى وهو سبحانه وتعالى: (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار). ولا يستقيم حال المجتمع إلا بحفظ الله تعالى لخلقه، ولو أن الله تعالى أعطى قدرة للإنسان ليطلع على سريرة الآخرين؛ لأدى ذلك إلى فتنة في الأرض وفساد كبير، والكيس الفطن من آثر الصمت إلا في خير ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» رواه البخاري.

ومن صفات الإخوة في الله أنهم يحرصون على حفظ أسرارهم الخاصة وأسرار بعضهم بعضا. يقول الدكتور رمضان المحلاوي في كتابه «من أخلاق الإسلام»: إن من صفات المؤمنين حقا السكوت عن إفشاء السر لأنهم يعلمون أنه سبيل إلى الغيبة والنميمة، وهما من الكبائر، فالمؤمن حقا يعلم أن أخاه نازل منزلته، ولقد بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم حال المؤمن الذي يستر عورة أخيه، فقال: «ومن ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة»، ولقد قيل لأحد الصالحين كيف حفظك السر قال: أنا قبره فإن صدور الأحرار قبور الأسرار، وفى وصية العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم لابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما إني أرى هذا الرجل -يعنى عمر رضي الله تعالى عنه- يقدمك على الأشياخ فاحفظ مني خمسا، لا تفشينّ له سرا ولا تغتابنّ عنده أحدا، ولا يجرينّ عليك كذبا، ولا تعصينّ له أمرا، ولا يطلعنّ منك على خيانة، ولا ريب أن هؤلاء الذين يفشون أسرار الناس ويتحدثون عنهم بما لا يعنيهم دون حق، هم ضالون مضلون وسلوكهم هذا يؤدي إلى الفحشاء والبغضاء وقطع أواصر القربى بين الناس وهو سلوك مرده تزيين الشيطان خاصة في المجالس التي تهوى إفشاء الأسرار ويصدق فيهم قول الله سبحانه: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).

ومن أخطر ما يصاب به المرء أن يستره الله سبحانه وتعالى لذنب ألم به ثم بوساوس من الشيطان وتزيين منه يفشى سر نفسه ويتباهى بذنبه ويجهر به، وهنا يقع في خسران الدنيا والآخرة، من أجل ذلك كان حفظ السر إلا لحاجة خلق أولياء الله وخاصته الذين حرصوا على أن يكون نطقهم ذكرا وقولهم هو النصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.

ومن جهة أخرى يقول الدكتور المحلاوي من الأمور التي يجب أن يعلمها الإنسان منذ الصغر هي أن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال.

قال تعالى: (ولا تجسسوا)، أي خذوا ما ظهر من أحوال الناس، ولا تبحثوا عن بواطنهم، أو أسرارهم، أو عوراتهم، أو ما يعيبهم، فإن من تتبع عورات الناس فضحه الله تعالى. والتجسس مأخوذ من الجس، وهو البحث عما خفي من أمور الناس والمراد من التجسس: النهي عن تتبع عورات المسلمين.

إن القرآن يقاوم هذا العمل الدنيء، وهو التجسس من الناحية الأخلاقية؛ ليطهر القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين، وكشف سوءاتهم، وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب.

هذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفى إجراءاته التشريعية والتنفيذية.

ففى المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم، ولا يوجد مبرر – مهما يكن- لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات، حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس. فالناس على ظواهرهم وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم؛ لأن للناس حرياتهم وكراماتهم وحرماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال، وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما ظهر منهم من مخالفات وجرائم، وليس لأحد أن يظن بالناس الظنون، بل يجب أن يكون الناس آمنين مطمئنين في بيوتهم وفى أعراضهم وفى شتى شئون حياتهم. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، قال:حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب، قال: أتى ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله:إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إذ يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن مجاهد: «لا تجسسوا» خذوا بما ظهر لكم ودعوا ستر الله. وروى الإمام أحمد بإسناده عن دجين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فتأخذهم فقال له عقبة: ويحك! لا تفعل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤودة من قبرها» رواه أبو داود والنسائي. وقال سفيان الثوري عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبى سفيان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم»، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها (رواه أبو داود). وحفظ السر من الأمانة فيحكى أن أنس بن مالك– وكان لا يزال طفلا صغيرا- مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وكان أنس يلعب مع أصحابه. فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب لقضاء حاجة له، فلما انتهى أنس من قضاء حاجة النبي- صلى الله عليه وسلم- عاد إلى بيته، فسألته أمه عن سبب تأخره، فقال لها: لقد ذهبت لقضاء حاجة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم. فقالت أمه: وماذا كانت حاجة النبي- صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: إنها سر.

ففرحت الأم وطلبت منه ألا يخبر أحدا بسر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وظل أنس يحفظ سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طوال حياته. وهكذا حفظ الإسلام للناس حرماتهم، وحرياتهم، وكراماتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد تحت أي ذريعة أو ستار.