المنوعات

«تـيد هــيوز» يتخـلى عن الصـمت وينفـي مسـؤولـيته عـن انتـحـار «سـيلفـيا بلاث»

12 ديسمبر 2017
12 ديسمبر 2017

«أنت قلت» رواية تجعل القارئ عضوا في هيئة محلفين -

الشربيني عاشور -

ينتهي فيلم «سيلفيا» بلقطة قريبة تأخذ في التراجع وتظهر «تيد هيوز» وراء نافذة ذات خطوط متقاطعة توحي بوضعه في قفص الاتهام باعتباره السبب في انتحار زوجته « سيلفيا بلاث» نتيجة خيانته لها.

الفيلم الذي جرى عرضه عام 2003 ولعب دور البطولة فيه «جوينيث بالترو» و« دانيال كريج» يتناول علاقة الشاعرة الأمريكية المنتحرة «سيلفيا بلاث» بالشاعر البريطاني « تيد هيوز»، وهي العلاقة التي بدأت بالحب ثم الزواج ثم خيانة الزوج فانتحار الزوجة.

وعلى الرغم من وجهة النظر المُدِينة لتصرف الزوج كما يبديها الفيلم في لقطته الأخيرة. إلا أن الكاتبة الهولندية «كوني بالمن» في روايتها الممتازة « أنت قلتَ» كان لها رأي آخر. فلو قدر لـ«تيد هيوز» أن يكتب رواية عن تراجيديا حياته المفعمة بالحب والمأساة لم يكن ليكتبها بأفضل مما أبدعت «كوني بالمن» في كتابة روايتها التي ترجمتها بإبداع مماثل الشاعرة التونسية «لمياء المقدم» التي تشكل ترجمتها للنص إبداعا موازيا حتى لكأن الرواية مكتوبة باللغة العربية في الأصل.

وكنهر يمضي بعذوبة في مجراه، صافيا متمهلا حينا، مكدرا مندفعا حينا آخر، يتدفق السرد في الرواية التي صدرت ترجمتها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الجوائز للعام الحالي (2017). أي بعد عامين فقط من صدور الرواية في لغتها الأصلية عام 2015.

وينضبط تمهل السرد واندفاعه وفقا لانبساط الأحداث وتعقدها، مستوعبا قصة الحب والمأساة التي وسمت علاقة «تيد» بطل الرواية وراويها بضمير المتكلم بحبيبته وزوجته «سيلفيا بلاث» التي تقدم الرواية ـ من وجهة نظر الراوي ـ تشريحا نفسيا واجتماعيا لحياتها التي انتهت نهاية مأساوية باستنشاق الغاز.

وتبدو لعبة السرد الأساسية في تماهي صوت كوني بالمن مع تيد هيوز، إذ تستعير الكاتبة صوت «تيد» والحديث من خلاله، في الوقت الذي تمنحه فرصة الحديث من خلالها؛ ليدافع عن نفسه ضد الاتهامات التي طالته والدعاوى التي وصمته في الواقع بالتسبب في وفاة زوجته عبر خيانته لها.

فـ«تيد» الذي صمت في حياته الفعلية ـ إلا قليلا ـ عن الدفاع عن نفسه أو الرد على من ألصق به تهمة التسبب في انتحار زوجته، يقدم عبر هذه الرواية دفعه العقلاني لهذه التهمة. من خلال سرد تفاصيل ومفاصل علاقته بزوجته المنتحرة منذ اللحظة التي تعرف عليها إلى اللحظة التي جاءه فيها نبأ انتحارها. لتنتهي الرواية وقد قدم عريضة دفاع قوية، تستند إلى المنطق والشاعرية في مخاطبة عقلية القارئ.

ومما يمنح هذه العريضة مزيدا من الصدق اعتماد «كوني بالمن» في متخيلها السردي لدفاع «تيد هيوز» عن نفسه على مقارباتها لقصائده «عيد الميلاد» الثمانية والثمانين التي صدرت

قبل وفاته بأشهر عدة، وكذلك أعماله الشعرية الأخرى ورسائل ومقالات وترجمات وتعليقات تركها أو كتبها على أعمال سيلفيا بلاث. بالإضافة لاعتماد «كوني بالمن» على دراسات نقدية تناولت قصائد وقصص ومذكرات ورسائل سيلفيا بلاث، وكتب سيرة أرخت لحياتها. ما يعني أن الرواية عبر هذه المقاربات تعمد إلى أن تقول الشاعر لا أن تتقول عليه. فهي عملية استنطاق ذات مرجعية واقعية، ومن ثم فإن عريضة الدفاع تقترب من مفهوم الوثيقة. وإن كانت تتم في إطار متخيل سردي. إلا أن نجاح هذا الاستنطاق يظل مرهونا بمدى ما بذلته «كوني بالمن» في تلك المقاربة، وبلوغها حدا كبيرا من التأويل المنصف لما تركه من أعمال شعرية وجزازات نثرية.

ويدعم عدم تقسيم الرواية إلى فصول حالة التدفق النهري للسرد؛ إذ تعكس هذه التقنية الحالة الشعورية لشاعر متهم يمضي في سرد دفاعاته دون توقف. وكأن الراوية فرصة ليقول ما صمت عن قوله طويلا. وهنا يصبح التدفق السردي ـ ومثلما هو تعبير عن شهوة للكلام ـ تعبيرا عن رغبة مؤكدة في الخلاص من عبء الاتهام الذي حمله الشاعر وحده طوال سنوات صمته بعيدا عن الواقع الروائي.

ولأن بطل الرواية شاعر، فقد كان من المؤكد أن يتسم السرد بقدر كبير من شعرية اللغة وشاعريتها، وهو ما يليق براو شاعر في الأساس. وهو أيضا ما تمثلته «لمياء المقدم» كشاعرة مترجمة جيدا، وعكسته عبر ترجمة نثرية تفيض بروح الشعر. ما يضعنا مباشرة أمام تأكيد «وردزورث» على عدم وجود خلاف جوهري بين لغة الشعر والنثر.

ومع أن الرواية في أحد مستوياتها تحمل وجهة نظر «تيد» التشريحية لمأساته الاجتماعية، فإنها على مستوى آخر تطرح سؤالا أخلاقيا شديد الأهمية حول تلك المساحة التي يحتاجها الشاعر للإبداع بعيدا عن جمود الحياة الزوجية. وهو المأزق الذي وجد تيد نفسه فيه بعد سنوات من الجمود حاصرته خلالها زوجته «سيلفيا بلاث»، وفرضت عليه طوقا محكما من الغيرة والملاحقة، فضلا عن إغراقه في أزماتها النفسية والإبداعية، وتقلباتها المزاجية، حتى وإن تخلل ذلك مساعدتها له في بناء شهرته وانتشاره في بداية علاقتهما الزوجية، بالتوفر على نسخ قصائده، وإرسالها إلى العديد من المطبوعات.

لقد كانت «سيلفيا بلاث» ضحية واقعها الاجتماعي والنفسي قبل معرفتها بهيوز. ذلك الواقع الذي تمثل في علاقتها الملتبسة بوالدها الذي رحل مبكرا، وكراهيتها المضمرة لسطوة أمها على حياتها، وبحثها الدائم عن صوتها الشعري، وتعثرها في الوصول إليه، ثم غيرتها على «تيد» وأخيرا اكتئابها وتقلباتها المزاجية. وهو ما تناوله «تيد هيوز» الراوي عبر نسج أحداث العلاقة بينهما. وبذلك يمكن تبرئة تيد من دمها؛ فالرجل لم يخن بالمعنى المعروف للخيانة، لكنه وهو المحاصر بهذه الحالة من الجمود في حياته، وجد نفسه في أزمة، وكان من السهل عليه أن يحب. أو أن تبتلعه تلك اللحظة التي تزين له استعادة حياته الحرة المنطلقة كشاعر. وهو ما حدث عندما التقى «آسيا ويفل» التي أغرم بها. وصارح زوجته بهذا الغرام الذي كان حتميا في ظل حياته الزوجية المتجمدة.

وإذا كانت «سيلفيا بلاث» قد رأت في علاقة زوجها بآسيا ويفل خيانة لها، فإن «تيد» وجد في جمود حياته الزوجية خيانة لنفسه وعالمه الشعري. وهنا تقود الرواية إلى ذلك التعاطف غير

المعلن من تيد إذ يبدو الشاعر كأنه هو الضحية. وهو أيضا ما يشي بتعاطف «كولن بالمن» كاتبة الرواية مع بطلها في مواجهة موقف نسوي رأى في «تيد هيوز» خائنا، وقاتلا. وفي سيلفيا بلاث ضحية وشهيدة!

إنها رواية ممتعة، مكتوبة بعطف وتعاطف في أحداثها وتدفقها السردي. سيتابعها القارئ وكأنه عضو في هيئة محلفين فإما أن ينفي عن «تيد هيوز» ما ألصق به من تهم، وإما أن يتعاطف مع موقفه الأخلاقي في الانتصار لنفسه وإبداعه كشاعر وهو ما بدا حتميا.