الملف السياسي

بين تسجيل المواقف .. وشراء الوقت!!

11 ديسمبر 2017
11 ديسمبر 2017

د.عبد الحميد الموافي -

لن يكون مفاجئا أن تنتهي الجولة الثامنة من محادثات جنيف دون نجاح ديمستورا في الجمع بين وفدي الحكومة والمعارضة في مفاوضات مباشرة، أو حتى السير خطوات ملموسة في تناول قائمة النقاط الاثنتي عشرة، وخاصة ما يتصل بمستقبل الأسد ، ووضع مشروع للدستور والإعداد لانتخابات عامة في سوريا ،،

بالرغم من أن الأسابيع الأخيرة شهدت إعلانا روسيا وأمريكيا أيضا عن هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابي في سوريا، بل والإيحاء بتخفيض قوات كل منهما في سوريا، بحكم أن المعارك العسكرية انتهت عمليا، إلا أنه يبدو أن اتجاه العمليات العسكرية في سوريا إلى الهدوء النسبي على الأرض، لا يعني – حتى الآن على الأقل – أنه يتم الانتقال بشكل مباشر إلى خطوات أكبر، أو أوسع، على طريق عملية التسوية السياسية، التي لا تزال تبحث عن صيغة للتوافق بين مسارات جنيف وأستانة وسوتشي، وهو توافق لم تظهر مؤشراته العملية بشكل واضح بعد، بغض النظر عن التصريحات على هذا الجانب أو ذاك، وهي التي حاول بعضها حصر الأمر في مسار محدد، على غرار صيغة «القناة الوحيدة المعتمدة للتسوية السياسية»، وهو ما عبر عن الفجوة الكبيرة التي لا تزال كامنة بين موقفي روسيا والولايات المتحدة، برغم لقاءات لافروف وتيلرسون، وما يصدر عنها من كلمات محسوبة بميزان الديبلوماسية وتعقد صياغاتها.

وفي ظل ما هو معروف دوما من تداخل، وتقاطع المصالح والمواقف، وحسابات الأطراف المختلفة لخطواتها ومناوراتها أيضا، فإنه ليس من المصادفة أبدا أن تشهد المنطقة، ومنها الساحة السورية، ما شهدته من أحداث وتطورات متسارعة، وشديدة التأثير أيضا في حاضرها ومستقبلها، من سوريا والعراق، إلى اليمن، ووصولا إلى القدس ومستقبلها، وهي جميعها متداخلة مع بعضها البعض، وكذلك مع قضايا وتطورات دولية أخرى في آسيا – كوريا الشمالية - وشرق أوروبا – أوكرانيا – وحتى في داخل الولايات المتحدة ذاتها – تطورات التحقيق القضائي في تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأمريكية واعترافات شخصيات مقربة من الرئيس ترامب بإجراء اتصالات مع موسكو - وذلك برغم تباعد مسافات الجغرافيا بين القارات، وتناقضات المصالح بين القوتين الأكبر، أي الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: إنه بالرغم من الإعلان المصحوب بقدر من الزهو الأمريكي والروسي كلا على حدة عن هزيمة تنظيم داعش في العراق، وفي سوريا أيضا، بل وتحرير الرقة، عاصمة ما كان يعرف بالخلافة على مدى السنوات الثلاث الماضية، وبالرغم أيضا من إعلان موسكو وواشنطن عن نية تخفيض القوات، إلا أن الواقع لا يزال كما هو على الأرض، فلا القوات الأمريكية بدأت في الرحيل، ولا القوات الروسية بدأت في حزم معداتها وتشوينها استعدادا للانسحاب، والأكثر من ذلك أن تنظيم داعش يحاول استجماع عناصره وخوض معارك بالقرب من إدلب، وفي جنوب سوريا، كما تقوم قوات سوريا الديمقراطية في الرقة وشمال غرب سوريا بإعادة تنظيم أوضاعها على الأرض التي تسيطر عليها، بل والإعداد لانتخابات محلية فيها، استعدادا لبناء هياكل حكم ذاتي فيها، وهو ما يجري على خلفية تحفظ وقلق تركي من جانب، وتأييد أمريكي مبطن ومراوغ أيضا من جانب آخر، وتحركات روسية محسوبة جيدا للاستفادة من كل ذلك، ولبناء علاقة أكثر تعاونا مع أنقرة، تحسبا أيضا لمستقبل الأوضاع في سوريا، وقمة بوتين – أردوغان أمس في أنقرة خلال زيارة الرئيس الروسي لتركيا تأتي في هذا الإطار، كما أن زيارة بوتين للقاهرة أمس الاثنين، ومحادثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي التي ستتناول بالضرورة التطورات في سوريا ونتائج التعاون المصري الروسي بشأن بعض مناطق التهدئة فيها، تصب في هذه التحركات، وعلى ذلك فإنه يمكن القول إن هذه الفترة هي من أخطر فترات الأزمة السورية، ليس فقط لآن الزعم بهزيمة تنظيم «داعش» لم يكتمل، ولم يصل إلى حد الإجهاز على التنظيم، برغم تحطيم الجزء الأكبر من قوته، ولكن أيضا لأن كل الأطراف النشطة في سوريا، بما فيها روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة، إلى جانب حكومة بشار الأسد وفصائل المعارضة، التي تحاول تجميع نفسها وردم الفجوات بين مواقفها ولو بشكل سطحي، تسعى للعمل لضمان مصالحها، أو بتعبير آخر حصتها في الكعكة السورية، ومن ثم ظهرت وتظهر تناقضات المصالح، وتنافر المواقف، كلما تم الاقتراب من التعامل مع متطلبات الحل السياسي؛ لأن القتال والمواجهات المسلحة كانت تغطي على ذلك من قبل، ولكنه الآن بات ضروريا الاقتراب منه والتعامل معه، وإذا كانت زيارة بوتين لتركيا أمس تعني الكثير، فإن الاغتيال البشع والسريع للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، قد تكشف تحقيقاته صفقة إقليمية دولية، أوسع بكثير من قدرات الحوثيين وفاعلية تخطيطهم، فهل تم استبدال اليمن بسوريا، وهل تعطي ردود فعل القوى الإقليمية والدولية حول اغتيال صالح دلالة ما في هذا المجال؟ إنه سؤال قد تجيب عنه ما يتكشف من حقائق خلال الفترة القادمة بشكل أو آخر.

* ثانيا: إنه في الوقت الذي سعت فيه روسيا الاتحادية إلى دفع مساري أستانة وسوتشي، لحمل المعارضة السورية وحكومة دمشق على التفاوض معا بشكل أو بآخر، وإيجاد آلية تخضع بالكامل تقريبا لتوجيه موسكو، وإتاحة الفرصة من خلالها لاستيعاب إيران وتركيا المختلفتين بشكل ما مع الولايات المتحدة، وهو ما لا يوفره، بالقدر ذاته، مسار محادثات جنيف، فإن مما له دلالة عميقة أن موسكو حرصت على أن تربط بين مساري أستانة وسوتشي وبين مسار جنيف، ليس فقط من خلال الحديث عن أن مساري أستانة وسوتشي ساهما في إحياء مسار جنيف، حسبما كرر وزير الخارجية الروسية لافروف، ولكن أيضا من خلال التأكيد على الالتزام بمسار جنيف والتمسك به، بل وتأجيل موسكو لمؤتمر الحوار بين الأطراف السورية في سوتشي انتظارا لنتائج الجولة الثامنة من محادثات جنيف التي ستنتهي في الخامس عشر من الشهر الجاري حسبما أعلن دي ميستورا مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للأزمة السورية.

ومع الوضع في الاعتبار أن روسيا حاولت إظهار أن هناك قدرا من التنسيق مع الولايات المتحدة بالنسبة للأوضاع في سوريا، وذلك عبر الاتصالات بين لافروف وتيلرسون، إلا أن الواقع العملي لا يشير في الحقيقة إلى ذلك، ليس فقط لأن واشنطن عملت على الإيحاء بأن مسار جنيف هو وحده مسار التسوية للأزمة السورية، ولكن أيضا لأن موسكو وواشنطن لم تصلا بعد إلى نقطة توافق حول مستقبل سوريا، خاصة فيما يتعلق بمصير ومستقبل الرئيس السوري من ناحية، وطبيعة الوجود الإيراني في سوريا وعلاقة طهران بدمشق في المستقبل من ناحية ثانية، وفي كلا النقطتين تلقي واشنطن بالمسؤولية على عاتق موسكو، وتتركها وحدها للترتيب الممكن، وهو عبء تدرك موسكو أنه ثقيل، ويحتاج إلى تعاون كل الأطراف بما فيها واشنطن بالتأكيد، ومن هذه النقطة تحديدا فإنه من الواضح أن عدم التوصل إلى توافق روسي أمريكي، حتى الآن على الأقل، بشأن نفوذ كل منهما في سوريا، ومدى نفوذ إيران وتركيا وتأثير كل منهما أيضا في مستقبل سوريا وأوضاعها على الأرض، هو المسؤول، إلى حد كبير، عن تعثر الجولة الثامنة من محادثات جنيف، التي تنتهي يوم الجمعة القادم، حيث حرصت الأطراف المختلفة على تسجيل المواقف ومحاولة شراء الوقت، دون التوصل إلى تفاهمات، أو إلى نقاط التقاء ذات معنى، أو يمكن أن تفتح الطريق للبناء عليها بشكل قوى في الفترة القادمة، وكما سبقت الإشارة من قبل، فإن التقدم نحو التسوية السلمية في سوريا سيظل مرهونا بمدى التوافق الروسي الأمريكي، والمؤكد أن هذا التوافق لا ينحصر فقط بالأزمة السورية، ولكنه يدخل فيه مصالح كلا الطرفين في قضايا إقليمية ودولية أخرى، بما فيها الأوضاع في أوكرانيا والخلافات الكورية الشمالية الأمريكية ومختلف قضايا المنطقة المتفجرة، وحتى مستقبل القدس والإعلان الأمريكي أحادي الجانب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو موقف لا يمكن إلا أن يرتبط - في جانب منه على الأقل - بموقف ترامب الداخلي في بلاده.

* ثالثا: على مستوى الأطراف السورية فإنه في الوقت الذي تسعى فيه السلطات السورية إلى زيادة مساحات الأراضي التي تسيطر عليها فعليا، مع تشكيل وحدات عسكرية مرتبطة بها، مثل « جيش العشائر» في درعا، على سبيل المثال، والإعلان المتكرر عن مواقفها السابقة حول رفض مناقشة مصير الرئيس السوري بشار الأسد، والتمسك بتحرير كل سوريا من الميليشيات، ورفض أية شروط مسبقة من جانب فصائل المعارضة السورية، فإن وفد الحكومة السورية في جولة مفاوضات جنيف الثامنة بدا وكأنه يتعمد إضاعة الوقت، سواء من خلال التأخر في الوصول إلى جنيف في بداية المفاوضات، أو في الانسحاب والعودة إلى دمشق ثم العودة إلى جنيف أمس الأول، فضلا عن انتقاده لمواقف المعارضة وتصريحاتها، ولموقف دي ميستورا ذاته، ولإعلانه لقائمة النقاط الاثنتي عشرة كإطار للتفاوض بين الحكومة والمعارضة، وهذه في الواقع تكتيكات معروفة لإضاعة الوقت وللدفع بالمفاوضات إلى جوانب فرعية، وأحيانا شكلية، وبشكل متعمد ومحسوب تجنبا للتوصل إلى اتفاق ما، أو انتظارا لتطور، أو لمواقف أكثر ملاءمة لمصالحه.

وعلى الجانب الآخر، أي المعارضة السورية، فإنه في حين تمكن مؤتمر «الرياض – 2» من جمع فصائل المعارضة، جميعها تقريبا، بما في ذلك منصة القاهرة ومنصة موسكو، وهو تطور إيجابي، فضلا عن إعادة تشكيل الوفد الموحد للمعارضة السورية، وتولي «نصر الحريري» رئاسة الهيئة العليا للمفاوضات السورية، وهى جميعها خطوات سارت بشكل واضح نحو مواقف أكثر اعتدالا من جانب المعارضة السورية، وهو ما تجسد في قبولها بالتفاوض دون شروط مسبقة، بغض النظر عن أية تصريحات موجهة في اتجاه أو آخر لحسابات مختلفة، فإن حديث المعارضة السورية عن عدم قيام الرئيس السوري بدور في المرحلة الانتقالية، كان حديثا لحفظ ماء الوجه، أكثر منه حديثا جديا للتفاوض بشأنه، لأن المعارضة السورية التي قبلت بالتفاوض دون شروط مسبقة، تدرك جيدا أن الرئيس السوري هو الآن أقوى من أي وقت مضى، ومن ثم فإن حديثها – المعارضة – عن عدم مشاركته هو بمثابة رد على مواقف وفد النظام السوري ومراوغاته، وعودة إلى تسجيل المواقف من جانبها، ولو بالتصريحات، وهو ما حاول دي ميستورا التقليل من أهميته حرصا على الحفاظ على المفاوضات.

وفي ضوء ذلك كله فإنه لن يكون مفاجئا أن تنتهي الجولة الثامنة من محادثات جنيف دون نجاح دي مستورا في الجمع بين وفدي الحكومة والمعارضة في مفاوضات مباشرة، أو حتى السير خطوات ملموسة في تناول قائمة النقاط الاثنتي عشرة، وخاصة ما يتصل بمستقبل الأسد، ووضع مشروع للدستور والإعداد لانتخابات عامة في سوريا، فذلك كله ينتظر الضوء الأخضر الأمريكي الروسي، القائم على توافق ومبادلة مصالح بينهما إقليميا ودوليا، ولا بأس من أن يسجل وفدا الحكومة والمعارضة مواقفهما ويحاولان شراء الوقت، حتى يحين الوقت المناسب للتسوية السياسية وهو ما ستحدده موسكو، ومعها إيران وتركيا من جانب، وواشنطن من جانب آخر، وحتى يأتي ذلك الوقت فقد نسمع، أو نشهد موجات استيقاظ لجماعات داعش في بقعة سورية أو أخرى!!.