الملف السياسي

جنيف الثامنة.. هل ستقودنا لنهاية المأساة؟

11 ديسمبر 2017
11 ديسمبر 2017

د. صلاح ابونار -

الحاصل أن ما سيحدد مستقبل سوريا ليس مفاوضات جنيف، وليس معنى ذلك انها بلا جدوى، بل حاجتها لمداخل تفاوضية قادرة على ردم الفجوة بين قاعاتها وحسابات الإرادات الفاعلة في الأزمة.

في الثامن والعشرين من نوفمبر انطلقت جولة مفاوضات جنيف الثامنة. كان ظاهر التطورات الميدانية على مدى عامين، والمؤشرات الإعلامية لبعض وقائع ما قبل الجولة الثامنة، تخبرنا ان أزمة سوريا في طريقها للحل. غير أن بعض الوقائع المصاحبة لمسيرة المؤتمر جاءت لتلقي الضوء على الوجه الآخر للصورة. واقع الأمر اننا بصدد تخفيض حدة الأزمة، وتغيير تجلياتها الأساسية، واخضاعها لدرجة من الإدارة والسيطرة. لكننا لسنا بصدد حلها جذريا، واستئصال جذور مأساة الشعب السوري.

تميزت الوقائع المصاحبة لانعقاد المؤتمر برسائلها المتناقضة، لكننا عندما نحللها داخليا سنكتشف عمق ترابط دلالاتها.

في توقيت متزامن أعلن البيت الأبيض والكرملين، البدء في سحب جزء من القوات الأمريكية والروسية من سوريا. وكانت الإشارة الواضحة: انتهى الصراع المسلح الأساسي، ومعه انتهى أوان المعارك الكبيرة.

وفي توقيت متقارب، بل في يومي انعقاد المؤتمر الأولين، كانت مدفعية الحكومة السورية وفي سياق هدنة مدتها يومان رعتها روسيا، تدك الغوطة الشرقية احد الجيوب المتبقية داخل مناطق سيطرة الحكومة السورية، دكا وصفته الأمم المتحدة بكونه جرائم ضد الإنسانية. بينما كانت قوات الأكراد السوريين، التي لعبت الدور الأساسي في تحرير الرقة والمدعمة من أمريكا، تجري انتخابات بلدية في مناطق تسيطر عليها شمال غرب سوريا تقدر بحوالي 30% من البلاد، كمرحله وسيطة من مخطط تأسيس حكم ذاتي، سينتهي 2018 بانتخابات برلمانية. والرسالة هنا كانت واضحة: ثمه تقسيم فعلي لمناطق النفوذ يصاحبه سعي متواز لتدعيم النفوذ ومأسسته.

وداخل قاعات المفاوضات حملت مواقف الطرفين دلالات متضاربة. جاء وفد المعارضة موحدا للمرة الأولى، وكان من قبل يحضرها ممثلا بعدة وفود. ولم يكن هذا هو التغيير الوحيد. فلقد جاء بعد تعرضه لضغوط إقليمية ودولية، أسفرت عن عملية إعادة تكوين، واستقاله الرئيس السابق للهيئة التفاوضية، وضم ممثلين لقوى معارضة موصوفة بالاعتدال أو المهادنة، وتبني رؤية تفاوضية جديدة. وفي حدود المعلومات المتاحة، وما تقوله وقائع وتصريحات المفاوضات، يمكن تحديد أهم العناصر الجديدة فيما يلي.

الموافقة على الدخول في مفاوضات مباشرة، وكانت كل الجولات السابقة تجري بين وفود منفصلة عبر وسطاء الأمم المتحدة. والتخلي ضمنيا وليس صراحة، عن مطلب رحيل الرئيس الأسد كشرط لانطلاق العملية السياسية الانتقالية، لصالح صيغة وسط تتكون من عنصرين. عنصر شكلي يسعى للحفاط على كرامة الوفد ومحاصرة صراعاته الداخلية، ويفيد بقبول بقاء الأسد خلال مرحله المفاوضات، مع الإصرار على الرحيل مع بدء العملية الانتقالية لنظام جديد . وعنصر موضوعي يفيد بتركيز النقاش على 12 قضية جزئية، تتناول العملية الانتقالية المتصلة بالدستور والانتخابات، مع إزاحة مسألة مستقبل الرئيس الخلافية الى الخلفية، بما يعني عمليا تجميدها أو تخطيها.

وفي المقابل جاء الوفد الرسمي بذات السياسات القديمة. جاء متأخرا عن موعده بيوم كامل، وحتى قبل يوم من بدء المفاوضات لم يكن في مقدور مندوب الأمم المتحدة، الجزم بحضور الوفد الرسمي. ثم جاء واضعا مسألة مستقبل الأسد في مكان الصدارة، التي تخطتها المعارضة عمليا وأبقتها شكليا، مشددا على عدم طرحها لمطلبها القديم الذي أضحى صوريا وخارج التفاوض عمليا. وبعد ثلاثة أيام مفاوضات اعلن عن تجميدة لها وعودته لدمشق للتشاور، مصرحا أن القيادة السورية ستحدد إذا كان سيعود أم لا.

ومن المؤكد أن الجولة الثامنة وفقا لمنطق تلك المقدمات، سينتهي مسارها نفس النهايات السابقة. وليس من المتوقع ان يغير من هذا المصير، ما أعلنه دي ميستورا عن استمرار أعمالها حتى منتصف ديسمبر الجاري .

ولن نجد علة مأزق إطار جنيف المزمن داخل أهدافه ذاتها، بل أساسا في غياب الإرادة السياسية الحقيقية القادرة والراغبة في دفعه. في كل مراحل الأزمة منذ انطلاقها الدامي في منتصف 2011، كانت الإرادات السياسية الفاعلة في الأزمة حريصة على تجنب وإفشال إطار جنيف، بينما أحجمت الإرادات الأخرى غير الفاعلة فيها ولكن القادرة على التأثير في مسارها، عن الفعل الإيجابي لغياب المصلحة أو تجنب الضرر.

هكذا تركت الأزمة السورية فريسة للعنف الرسمي وتداعياته الأهلية، والتدفقات الجهادية العابرة للحدود، والمشاريع الأصولية التي وجدت فيها أرضا لتجريب أوهامها، والأدوار والتحالفات الإقليمية الضيقة التي استدعت أدوارا وتحالفات مضادة، والحسابات القاصرة لقوى دولية لا ترى الأخطار إلا لحظة انفجارها.

وعندما تصاعدت الحرائق السورية، وأخذت شرارات نيرانها تتطاير خارجها، استيقظوا و أدركوا المخاطر. ولقد تبدت تلك المخاطر عبر أشكال عدة. توطن مكثف للتنظيمات الإرهابية، أضحى بيئة جاذبه لمقاتلين من بلدان الغرب، يعودون بعد فترة حاملين معهم ما تعلمونه. وعنف ضاري خلق فيضا مهاجرا بلغ 11 مليونا من السكان ، قصد منهم 5 ملايين البلدان المجاورة، واستقر منهم مئات الألوف في أوروبا. وبيئة إسلامية جهادية عالية العقيرة، توجت بظهور الدولة الإسلامية، أضحت هدفا لتفاعلات الفئات الشابة من الجاليات الإسلامية الواسعة في أوروبا وروسيا، بكل تداعيات ذلك ومخاطره. وأزمة حادة مفتوحة على محيطها الإقليمي، الذي أضحى معرضا لتدفقاتها وأضرارها الأكيدة.

وفي مواجهة ما سبق ولد التدخل الدولي - الإقليمي الذي استهدف الإحاطة بالأزمة. انطلق هذا التدخل انطلاقة واهنة أواخر 2014 بتكوين أوباما للتحالف الدولي الإقليمي، والبدء في محاصرة داعش عبر القصف الجوي. غير ان نمط تدخل أوباما لم يجد كثيرا، وأخذت السلطة السورية تقترب من الانهيار خلال 2015 . وفي مواجهة هذا الاحتمال انطلق التدخل الروسي الجوي أواخر 2015، ثم تصاعد وتوطد عبر تحالف إقليمي مع تركيا وإيران، لينتهي بتمكين السلطة من السيطرة على نحو 70 % من البلاد . ومع مجيء ترامب اطلق سياسة عسكرية جديدة صوب داعش انتهت بتدميرها في العراق، انتقلت الى سوريا لتنتهي بالقضاء عليها هناك عبر تنسيق مع روسيا.

سعي هذا التحالف صوب تحقيق عدة أهداف، لم تحظ جميعها بإجماع كل أطرافه. سعي الجميع على تناقضهم لهدم الدولة الإسلامية، وتفريغ سوريا من الجهاديين، وإيقاف التدفقات الجهادية بينها وبين العالم الغربي وروسيا. كما استهدف الجميع التهدئة العسكرية واستعادة الأمن، لوقف تدفقات الهجرات وتحجيم التداعيات الإقليمية لفوضاها الداخلية. ومن اجل تحقيق هذا كان يجب ان يتفقوا على تدعيم سلطة الدولة، واستعادتها لسيطرتها على إقليمها.

غير أنهم اختلفوا حول هوية سلطة الدولة. في غمار السعي لتحقيق الأهداف السابقة، كان من المستحيل عمليا الاختلاف حول هوية من يحكم وكيف يحكم.

كان المطلوب مرتكز محلي للعمل، ولم يكن من الممكن ان يكون سوى سلطة الدولة الراهنة، ولم يكن في إمكان أي قوة أهلية ان تقدم بديلا لها. إلا ان سؤال هوية سلطة الدولة كان حاضرا ومطروحا في سيناريوهات ما بعد الحرب، لكن عبر التركيز على هوية الحاكم والنخبة المحيطة به، وليس هوية وشكل نظام الحكم. وهكذا انقسم التحالف الدولي الإقليمي بين فريقين: اول يرى انه لا مستقبل للسلطة السورية الراهنة في نظام ما بعد الحرب،وثان يرى انه لا مستقبل لنظام ما بعد الحرب بدون السلطة السورية.

ولم يكن من شأن هذا الخلاف منع التدخل الدولي وتنسيق أدواره، فلقد كانت مخاطر الأزمة كفيلة بتأجيل تلك المسالة. ولكن إذا كان الخلاف لم يمنع التدخل والتنسيق، سنجد فعله حاضرا في تشكيل نمط التدخل ومساراته. هكذا توزعت الأدوار بين نمطين: تدخل غير مشروط، يسعى لاستعادة السلطة بذات نخبها لكامل قوتها وسيطرتها الإقليمية، مع مساحة من الإصلاح السياسي، كما هو شأن الدورين الروسي والإيراني.

وتدخل مشروط يسعى لاستعادة السلطة السورية لقوتها وسيطرتها الإقليمية، ولكن بدرجة تتيح إمكانية الضغط المستقبلي من اجل تحولات سياسية هيكلية، تتصل بهوية النخب ومؤسسيه السلطة، وهذا هو شأن الدور الأمريكي. وسيكون من السذاجة ان ننسب الخيار الأمريكي حصرا لاعتبارات مبدئية، فثمه اعتبارات أخرى تتعلق بمسارات الصراع الأمريكي- الروسي، ومواقف الحلفاء الإقليميين.

يفسر لنا هذا التدخل المشروط الجيب الكردي الشمالي الغربي، الذي يشكل 30% من سوريا، والذي يتسيده الأكراد المتحالفون مع أمريكا، الذين لعبوا دورا أساسيا في تحرير الرقة. وجيب ادلب التركي الشمال الشرقي، الذي يسيطر عليه التركمان السوريون. وحتى لو تمكن المعسكر الآخر من استئصال تلك الجيوب، سوف تجد سوريا نفسها في وضع مأساوي. سوف تعود بلا فوضى وبلا عنف جهادي، ولكن أيضا بلا أي مأسسة حقيقية وجديدة للعلاقة بين الدولة وشعبها، بعد ان انهارت كل المؤسسات القديمة.وسوف يتمكن المعسكر الأول من تفريغ النصر من مضمونه. فكل مفاتيح التدفقات المالية لإعادة إعمار سوريا موجودة لدية، ودونها ستحكم السلطة المستعيدة لصلاحياتها أرضا خرابا لعقود قادمة.

والحاصل: ما سيحدد مستقبل سوريا ليس مفاوضات جنيف، وليس معنى ذلك انها بلا جدوى، بل حاجتها لمداخل تفاوضية قادرة على ردم الفجوة بين قاعاتها وحسابات الإرادات الفاعلة في الأزمة. ولكن المشكلة ان الإرادات المركزية منها انتقلت للقوى الدولية. انتقلت خارج سوريا بفعل الانهاك الذي حل بشعبها، وانتقلت خارج العالم العربي بفعل تردي السياسات العربية لإدارة الأزمة.

وهكذا ليس من سبيل جذري لتخطي المأساة السورية، سوى استعادة الدورين السوري والعربي لعمق البصيرة وإصرار الإرادة.

مهمة ليست مستحيلة، فمن قلب الأزمات تولد البصيرة والإرادة.