أفكار وآراء

تحرير الموصل.. الحدث الإيجابي لعرب 2017

09 ديسمبر 2017
09 ديسمبر 2017

د. عبدالعاطي محمد -

وسط الأحداث العربية الساخنة خلال العام 2017, وما أكثرها، يأتي تحرير مدينة الموصل العراقية بمثابة الحدث العربي الإيجابي الوحيد تقريبا ؛ لكونه طاقة النور الوحيدة في المشهد المظلم حيث الانقسام والتشتت. فقد جمع ملامح المشهد العربي وليس العراقي فقط، من حيث أسباب الصمود والمقاومة حتى النصر، في مواجهة أسباب الوهن والتردي، فضلا عن دلالاته المستقبلية.

لقد جاء وقت جرى فيه الحديث عن تحرير مدينة عربية ونحن في القرن الحادي والعشرين، وليس عن تحرير دولة كما كان الوضع في مراحل الاستقلال الوطني في المنطقة العربية، وكأن الدولة الوطنية العربية باتت في محنة حقيقية حيث ليس من المتصور الحديث يوما عن تحرير إحدى مدنها بعد أن دانت لها السيادة على أراضيها عقودا طويلة. وأن يكون موضوع التحرير هو إجلاء المدينة من احتلال قام به تنظيم من طينة هذا البلد ونسيجه الاجتماعي رفع راية الإرهاب والخراب والدمار. وأن تتحول عملية التحرير إلى مهمة ضخمة تتجاوز النطاق الوطني وتتخذ أبعادا إقليمية ودولية تتداخل فيها عوامل عديدة تشمل الخلافات الطائفية والعرقية وعلى المصالح الأمنية والاقتصادية والنفوذ.

المشهد لم يكن عراقيا وحسب، بل تكررت ملامحه في بقاع عربية أخرى بدءا من سوريا المجاورة وصولا إلى ليبيا ومرورا باليمن، حيث الغرض واحد هو تحرير مدن عربية في غيبة دولها الوطنية بعد أن انهارت تحت وقع مشروع جهنمي للتقسيم والتفتت، وتمر هذه الحالات وغيرها بنفس مسارات ما جرى في الموصل وإن كانت لم تصل إلى النهاية السعيدة.

لقد ابتهج العراقيون بكل تأكيد لحظة إعلان تحرير الموصل، ولكن المشاركة العربية في هذا الابتهاج كانت مفقودة. وربما هنأ القادة العرب وكذلك الجامعة العربية القيادة العراقية، ولكن الحدث لم يلق صداه المنتظر عربيا خصوصا على المستوى الشعبي بسبب حالة الانقسام والتشتت التي تخيم على المنطقة العربية، وذلك في حد ذاته دليل يعزز اعتبار تحرير الموصل الحدث الأبرز عربيا للعام 2017 من منطلق أنه يعبر جيدا عن مجمل الحالة العربية بسلبياتها وإيجابياتها.

كانت الموصل قد سقطت في قبضة تنظيم «داعش» ليلة 11 يونيو عام 2014 وذلك عندما داهم نحو ألفين من مقاتلي التنظيم مقرات الشرطة والحواجز الأمنية والسجون أيضا مما جعل المدينة تسقط سريعا وبشكل مفاجئ في أياديهم. والغريب أن التنظيم قاد العملية أصلا للانتقام من مقتل قائده الميداني أبو عبدالرحمن البيلاوي فأعلن قيامه بغزوة للثأر وحدد ساعة الصفر بليلة 9 يونيو وتحركت قواته فعلا إلى جنوب المدينة وخلال يومين تمكن من السيطرة عليها بالكامل. ودون النظر إلى ما حدث من منطلق التفكير التآمري، فإن الفراغ الأمني السريع والمفاجئ الذي أحدثه انسحاب القوات الأمنية الحكومية كان من العوامل الرئيسية لسقوط المدينة في يد التنظيم. ذلك التصرف الذي لم يكن مفاجئا في ظل ضياع هيبة الدولة الجديدة بفعل الخلافات الطائفية والمصلحية في ذلك الوقت. وعلى مدى 3 سنوات تمكن التنظيم من تشكيل حاضنة مجتمعية له في المدينة مستغلا الاحتقان السني من الحكم في بغداد والإهمال والتهميش وغضب العشائر.

واحتاج تحرير المدينة زمنا وعدة من حيث تجهيز القوات العراقية (الجيش والشرطة) وظهور قوات الحشد الشعبي وقوات البشمركة ليخوض الجميع حربا للتحرير ضد التنظيم مدعما بمساندة مؤثرة من قوات التحالف الدولي. كما أن الحاضنة الشعبية التي كان التنظيم قد نجح في بنائها انقلبت عليه فيما بعد بسبب الوحشية المفرطة والغطرسة اللاإنسانية من جانبه في تعامله مع السكان. وساهم ذلك في هزيمة التنظيم. وبعد 9 أشهر من الحرب على التنظيم تم إعلان تحرير المدينة في 8 يونيو 2017 على لسان حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الذي وصل المدينة مرتديا الزي العسكري معلنا هزيمة التنظيم.

أهمية الحدث ترجع لأكثر من اعتبار. فالموصل هي عاصمة أو مركز محافظة نينوى، وتعد المدينة ثاني المدن العراقية بعد بغداد من حيث عدد السكان، معروفة بوزنها التجاري حيث أنها ملتقى التجارة بين العراق وكل من تركيا وسوريا. أغلبية سكانها من السنة وهناك أقلية (20%) تضم طوائف مسيحية وأكراد وتركمان وشبك، وتقطنها بعض كبريات العشائر العراقية مثل شمر والجبور. وبها أكبر سدود العراق وهو سد الموصل. وقديما كان للمدينة وضع بالغ الأهمية حيث خضعت للصراع على النفوذ بين بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، ثم للخلاف بين فرنسا وتركيا فيما بعد، ولم يكن ممكنا قيام دولة العراق 1926 إلا بشمولها الموصل وهو أمر احتاج إلى اتفاقية أنقرة التي أقرت تنازل تركيا عن المدينة للدولة الجديدة. وفي نظر إياد علاوي نائب رئيس الوزراء العراقي كانت مهمة تحرير المدينة بمثابة الميلاد الجديد للعراق التعددي وغير الطائفي.

ليس ذلك وحسب، بل إن تحرير المدينة كان انتصارا على أخطر أشكال التنظيمات الإرهابية التي تتستر باسم الإسلام وهو تنظيم «داعش». ومعلوم إلى أي حد من السوء وصلت الصورة الذهنية عن الإسلام في العالم بسبب وحشية وانحراف هذا التنظيم. ولم يكن الخلاص من التنظيم سهلا لا في العراق أو سوريا علما بأنه تغلغل في مناطق عربية أخرى. واحتاج إلحاق الهزيمة به إلى تشكيل تحالف دولي جاء بترسانة عسكرية ضخمة ومتقدمة إلى البلدين وخصوصا العراق. واستغرقت عملية إلحاق الهزيمة بالتنظيم نحو 3 سنوات خلفت بعدها حجما مهولا من الدمار. وكانت الموصل محطة فارقة في هذه العملية، فبعد تحريرها توالت مظاهر انحسار التنظيم وتنفس العراقيون والعالم الصعداء.

ومن جهة أخرى جسدت قصة سقوط الموصل وكذلك تحريرها جانبا كبيرا من الوضع المأساوى الذي عاشته المنطقة العربية، ولا تزال، منذ الحرب على العراق 2003 ووصول التنظيمات المتطرفة إلى المنطقة ممثلة من قبل في القاعدة ثم في «داعش»، وتفاقم الوضع أكثر مع موجات التغيير التي عمت عدة بلدان عربية ولم تعد قاصرة على العراق وحده. واتسم هذا الوضع بالارتباك والفوضى وسقوط دول عمليا وليس فقط مجرد سقوط أنظمة، وباتت هناك بدائل لشكل وطبيعة النظم السياسية مناقضة إلى حد كبير لما كانت عليه منذ مرحلة الاستقلال الوطني. وليس خافيا أن هذه التطورات الحادة خلقت مناخا سيئا في قطاع واسع من المنطقة العربية لم يعد قاصرا على أنظمة الحكم بل امتد إلى الشعوب فيما بين أبناء الشعب الواحد وبين الشعوب بعضها البعض. ولذلك كانت عملية تحرير الموصل إعلانا ببداية مرحلة الاستفاقة العربية من ذلك الوضع المأساوي والإسراع بطي صفحات الماضي القريب المظلمة وكتابة تاريخ جديد تنعم فيه الشعوب بالاستقرار والرفاهية.

العراقيون بالطبع هم أول من استوعب الدرس القاسي لأنهم عاشوه سنوات عديدة وأصبحت لديهم خبرة جيدة بكيفية إرساء قواعد سياسية تمنع تكرار التجربة المرة، ولذلك مثلا تجاوزوا سريعا أزمة الاستفتاء الذي قام به إقليم كردستان العراق مطالبا بالانفصال. رفضت الحكومة المركزية الطلب وارتدت الفكرة على قيادة الإقليم وباتت غير ممكنة خصوصا مع رفضها من جانب أكراد السليمانية وكركوك، كما تم رفضها إقليميا ودوليا. وما كان ذلك يحدث لو لم تكن كل الأطراف بما فيها الحكومة المركزية قد استوعبوا جيدا أهمية الإنجاز الذي تحقق بتحرير الموصل. كما أن العراقيين باتوا أكثر توافقا على تحقيق الميلاد الجديد لبلدهم كما تأمل علاوي، خاليا من الاحتقان الطائفي والمؤسس للتعددية السياسية التي تعنى أول ما تعنى قبول كل القوى السياسية ببعضها البعض واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية؛ لأن البديل لذلك هو تكرار ما جرى للموصل.

ولكن التحرير لن يكتمل إلا بإعادة الإعمار، وتلك مهمة ضخمة تستشعرها الحكومة العراقية. فوفقا لما تم تداوله إعلاميا تحتاج عملية تحرير الموصل لما يزيد على المئة مليار دولار نظرا لأن المدينة تحولت إلى مدينة أشباح بالنظر إلى حجم الدمار الذي أحدثه «داعش» وذلك الذي ترتب على إجلائه من المدينة.

ودون مساندة المجتمع الدولي لخطة إعمار طويلة وقوية، فإن الموصل مهددة بظهور أشكال جديدة من «داعش».