1184035
1184035
إشراقات

الإنسان الأمثل والقدوة الأحسن

07 ديسمبر 2017
07 ديسمبر 2017

يحيى بن سالم الهاشلي - إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

لقد اصطفى الله تعالى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليكون الرسول الخاتم للبشرية ويكون دينه المنهج الأكمل الذي ارتضاه لهم سبيلا للعيش، ومن المهام التي تقلدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قدوة للعباد في الحياة فجاء الخطاب الإلهي بربط التأسي بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى رضوان الله والنجاة في الآخرة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، وجاء هذا التوجيه الرباني باتخاذ الأسوة أو القدوة موافقا ومراعيا لغريزة فطرية في الإنسان، إذ يقرر المختصون في التربية أن تقليد الغير والتأسي به يعد الأقوى تأثيرا في اكتساب العادات والتصرفات لدى الإنسان فهو غريزيا يسعى لاتخاذ القدوة من أشخاص حوله كالأكبر سنا أو الأقوى شخصية، وهذا الأمر مشاهد في الحياة فكثير من السلوكيات والمهارات الحياتية لدى الأبناء تنتقل إليهم من خلال تقليد آبائهم ومن له تأثير أكبر عليهم كالإخوة والمعلمين، واتخاذهم قدوات سواء أكانت تلك السلوكيات إيجابية أم سلبية، لذلك لجأت بعض الأمم لخلق قدوات خيالية من أبطال خارقين لأجيالها الناشئة بغيت إنشاء تأثير إيجابي عليهم وسط ما يعيشون واقعيا من قدوات سلبية، لذلك اختار الله تعالى لهذه الأمة الإنسان الأمثل والقدوة الأحسن ليكون النموذج الذي يقتدونه ويقلدونه في كافة شؤون حياتهم، وهذا النموذج صلاحيته باقية ببقاء الإنسان لأن منهجه باق ما بقي الزمان.

و محمد صلى الله عليه وسلم قدوة لأمته بشخصه كإنسان أي في أفعاله الإنسانية لا ما تعلق برسالته وهي ما لا يمكن لأي بشر أن ينالها كونها اصطفاء كالوحي والتشريع أو ميزة تعلقت به كنبي تكريما له أو تكليفا كالوصال في الصوم ، ونجد أن القرآن الكريم يرشد لذلك (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)، وذلك أن لو تعلق التأسي به بما كان من اختصاصه كرسول لاعتذر الناس بعدم قدرتهم على التأسي والاقتداء كونهم لا يملكون خصائص الرسل، لذا كان المقصود ما هو داخل في نطاق القدرة الإنسانية لكل فرد إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والنبي صلى الله عليه وسلم شهد له الكثير من الباحثين المنصفين حتى ممن لا يؤمن برسالته، بأنه الإنسان الأمثل و الأول لما حواه شخصه من صفات وما قام به من إنجازات على كافة الصعد تؤهله لقيادة البشرية وحل مشاكلها العصية كما صرح أحدهم بذلك، وليس ذلك بغريب على محمد صلى الله عليه وسلم الذي تصفه زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها «كان خلقه القرآن»، فاختصرت بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان التطبيق العملي للكتاب الخاتم والمنهج الأكمل الذي أراد الخالق أن يكون عليه كل الناس ليحققوا غايات الخلق وينالوا خير الدنيا وسعادة الآخرة، وبما أن هذا المنهج جاء تلبية لاحتياجات البشرية في كل حياتهم يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لهم في كل حياتهم إجمالا في موضع الإجمال وتفصيلا في موضع التفصيل، ونستعرض هنا بعضا من تلك الأوجه.

الإنسان يرتبط بعلاقات عدة في هذه الحياة ويترتب على هذه العلاقات واجبات يؤديها وحقوق يكتسبها، وكل ما زادت مسؤوليات الإنسان الحياتية زادت أطراف العلاقة معها وبالتالي الواجبات لكل صاحب علاقة، وهنا قد يحصل الخلل والتقصير في أداء الواجبات، والناظر إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليقف وقفة إجلال وإكبار لشخصه الكريم، كيف أنه وهو المبلغ عن ربه الوحي والمرشد الناس لسبل الخير وهي أعظم مهمة يقوم بها إنسان كان في ذات الوقت الزوج المحب والوالد الحنون، والقائد للجيوش والقاضي العدل والمعلم المتفاني والعامل المجتهد والصاحب المخلص والساعي في الخير المتطوع والعابد المتبتل في كل ليلة، فكان مع تعدد أطراف العلاقات الذين يصلوا لألوف من البشر موف لالتزاماته تجاههم جميعا، وفي هذا حكمة من الله تعالى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد صاحب مسؤولية دينية كرسول عن الله مبلغ و صاحب مسؤولية في كل ما يتصور من مواقع المسؤولية الاجتماعية سواء في الأسرة أو المجتمع أو السلطة فيكون موفيا بحقوقها جميعا ليكون القدوة لمن يأتي بعده في عدم التعذر بكثرة المسؤولية في أداء الواجبات والسعي في الوفاء بها، وهنا نذكر صورا من مسؤولياته صلى الله عليه وسلم وسلم من حياته وكيف كان يتعامل معها.

تصف السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم في بيته عندما سئلت ماذا كان يفعل فقالت «كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه ويكون في مهنة أهله» ، إن السيدة عائشة عندما اختارت هذه الأفعال لتخبر عنها إنما تظهر وجها غير مألوف في ذلك الزمان - وقد ينطبق على عصرنا- لأفعال رجل في بيته، فقد كان الرجال يأنفون العمل في منازلهم ويطلبون من النساء أداء هذه المسؤوليات وكأنها واجب مفروض، ولكن عندما يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو فاعل ذلك فهو يؤسس لنهج جديد للأسرة يكون التعاون في تحمل الأعباء ركنا فيه ، كما يقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان ينبغي أن يكون صورته في المجتمع والعامة هي ذات الصورة في بيته وعند خاصته : «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، فالبعض قد يهتم بإظهار صفات حسنة ويتلبس بها أمام المجتمع من كرم وحلم ولين جانب، ولكن مع عائلته يكون شحيحا فاحشا، فيبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس من الخير وأن الأولى في الإنسان أن يكون خيرا مع خاصته كي تكون سجية مع الجميع، ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه وهو الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم مدة مكثه في المدينة عن حلمه وسعة صدره فقال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، لا والله ما سبني سبة قط ، ولا قال لي أف قط ، ولا قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته»، إن الإنسان بطول المعاشرة تظهر طبائع نفسه التي يجاهد أن يخفيها عن الناس ولكن أن تعاشر شخصا لسنوات طويلة وتكون في خدمته وبسن صغير ويكون هناك تقصير وخلل في أداء الواجبات ولا يكون من ذلك الشخص حتى التأفف والامتعاض لهذا هو كمال كمالات الحلم، والكثير من الروايات التي يرويها خاصة النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه ورغم كونه صاحب أعظم منصب إنساني والقدسية والمهابة كانت تجعل أقوى الرجال يتصاغرون أمامها، لم يكن ذلك حائلا أن يحس أزواجه و أبناؤه وقرابته بالمحبة والحنان واللطف الجم التي بها كانوا يرونه زوجا يذهب لشراء حاجة البيت وأبا يركب أحفاده على ظهره ويحنو عليهم بالقبلات المشفقة و يداعبهم ويلاعبهم، فهنا الأسوة الحسنة للأزواج والآباء والنموذج الذي يريده الله أن يكون في كل أسرة التي هي عماد المجتمع واللبنة الأولى في بناء الأمة التي يكون نجاحها نجاح للسائر الأمة وفشلها فشل للأمة.

وإن توسعنا في دائرة العلاقة التي كان يتعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم من المجتمع عامة لوجدنا أن ذات الصفات التي كان يعامل بها أهله هي تحكم تعامله مع الناس كالحلم والعفو واللين، ويتحدث القرآن الكريم عنها في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، لقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم مسؤوليات عدة تتصدرها الدعوة إلى الله و قيادة المجتمع المسلم وفي هذا كان يلتقي أصنافا عدة من الناس تختلف أخلاقهم وطباعهم فكان يحتوي الجميع بحسن أخلاقه وبحلمه ولين جانبه، يقدم الصفح والعفو ما كان لذلك متسع من إنصاف وعدل حتى مع الأعداء، فتلك مقولته لأهل مكة الذين آذوه وهجروه وكانت بينهم الحروب والدماء عندما ظفر بهم في فتح مكة فقال: ما تظنوا أني فاعل بكم. فقالوا وقد علموا عظيم خلقه: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء،» هكذا وبكل سهولة عفا عنهم لأن مقصده ليس سفك الدماء والانتقام بل الصلاح والإصلاح ورسالته حفظ الحياة وإكرام الإنسان ، وهو بهذا يؤسس لنهج لم يألفه أولئك القوم ولا من عاصرهم الذين كان الانتصار مرادفا للدمار والتنكيل، وهذه القدوة هي أكثر ما تحتاجه الإنسانية اليوم وقد أرهقت بمعاناة الضعفاء وصار فقد الأرواح أمرا مألوفا. لقد جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم ليكون روح الحياة وحياة الأرواح (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للناس في كل جانب من جوانب الحياة قولا وفعلا، ليكون المثال الذي يسعى كل إنسان أن يماثله ويشابهه ليسعدوا في الدنيا والآخرة وينالوا رضوان الله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).