1186237
1186237
المنوعات

الوعي المدنيّ والمُشارَكة المُواطِنة

07 ديسمبر 2017
07 ديسمبر 2017

د. محمّد نور الدّين أفاية -

يبدو أنّ كلمة «حوار» من بين الكلمات الأكثر شيوعًا في اللّغات العالميّة وأكثرها تعرّضًا للالتباس في الآن نفسه. نجد البعض يلجأ إليها ويرفعها كشعار أو كآليّة في الوقت الذي يقوم فيه بأدوار تتنافى مع أيّ مبدأ من مبادئ الحوار المعروفة. كما قد يزجّ بها في مَعْمَعَة «خلافات» قد تَستدعي التفاهم، أو تتطلّب حلّ النزاعات، أو بالأحرى تفترض الإعلان عن الاعتراف الذي يشكّل أحد مرتكزات المجتمع العصريّ.

في حالة ما يُنعَت بالحوار المدني، فإنّه ذلك الحوار الذي يحصل بين السلطات العمومية والمجتمع المدني المُنظّم. ويتيح الجمْع بين تنظيمات هذا المجتمع، بوصفها شريكة اجتماعية، للتداول حول القضايا المجتمعية الكبرى من قبيل العمل الاجتماعي، والتربية، والنضال ضدّ التمييز، والمساواة في الحقوق، والبيئة، وحماية المستهلك... إلخ. ومن ثمّ فليس الحوار المدني هو الحوار الاجتماعي، الذي يحصل، مثلا، بين النقابات والمشغّلين، والذي يخضع لآليّاتٍ وسياقات محدَّدة.

ومن البديهي الإقرار بأنّ الحديث عن المجتمع المدني يستلزم ربطه بمدى تقدّم الانفتاح السياسي والتعدّدية في بلدٍ من البلدان؛ إذ كلّما اتّسعت دائرة الحرّيات والمُمارَسة الديمقراطية وأصبحت واقعا مؤسّسيا، تنامت تنظيمات المجتمع المدني وتطوّرت. ويستقرّ الحوار المدني ويتعمّق لتعزيز «الديمقراطية التمثيلية»، أو بالأحرى لاستكمال ما يميّزها من نقائص، واستعادة الثقة في الفعل المدني، والدفاع عن المصلحة العامّة؛ بل إنه يسمح لشرائح وفئات غير مُمثَّلة في المؤسّسات «المُنتخَبة» بالتعبير عن ذاتها وعن انتظاراتها، من خلال أُطر تعتمد القرب، والمُبادرة، حيث يُمكن أن تتحوّل إلى قوّة اقتراحيّة أو إلى «سُلَط مضادّة» تنبِّه إلى المفاسد، والأعطاب، والأخطاء، وتُطالِب بالمُحاسبة.

 

وتُبيّن التجارب الديمقراطية كيف أنّ الجمعيّات تحوّلت إلى مختبرات حقيقية للتربية على المُواطنة، وإلى فضاءات للتعلّم، وتحسين القدرات، واكتساب حسّ المسؤولية، وبناء المشروعات. ولذلك يتّخذ الحوار المدني في الديمقراطية صيغًا متنوّعة، متحوّلة، وأحياناً ما تكون معقّدة. فالأمر ليس بالأمر البديهي، كما يُمكن أن يبدو؛ لأنّ تنظيمات المجتمع المدني الجدّية كثيرًا ما تحمل «مَطالِب مواطنة» لتجديد العمل السياسي، بالمعنى العامّ للسياسة، وتطوير الفعل الاجتماعي. وهنا يُطرَح سؤالٌ كبيرٌ حول صدقيّة هذه الجمعيّات، والتناسل غير الصحّي لجمعيات تُشوّش على العمل المدني وعلى فرص الحوار إذا ما تقرّر إطلاقه. فهناك فارقٌ نوعيٌّ بين جمعيات أُنشئت لتنظيم طقوس المُجامَلة أو الاستفادة من مختلف أشكال الريع، وأخرى تعمل بصدق للإعلاء من شأن قيَم المجتمع التضامني، وتعبّر، فعليًّا، عن انتظارات بعض الفئات من الناس، تتجذّر في الواقع المحلّي، والجهوي، وتملك ما يلزم من كفاءة اقتراحيّة تُنتج بها المعنى وتنتزع الاعتراف؛ بل إنّ القطاع الجمعوي في بعض البلدان الديمقراطية أصبح مُشغِّلاً مهمّاً للشباب والكفاءات، كما هو الحال في فرنسا على سبيل المثال، حيث يُشغِّل القطاع الجمعوي في فرنسا مليونَي شخص، ويصل عدد المتطوّعين فيه إلى 18 مليون متطوِّع...الأمر الذي دفع ببعض الدول إلى تنظيم آليّات للحوار المدني، ووضْع معايير واضحة، بمشاركة الجمعيّات، تحدِّد شروط تمثيليّتها ومُشاركتها في اقتراح تصوّرات تهمّ بعض السياسات العمومية ومناقشتها. علمًا بأنّه يصعب العثور على تعريف دقيق، أو قانوني لصيغة «منظّمة المجتمع المدني»؛ لأنّ هناك جمعيّات تنشط في العمل الاجتماعي والتنموي، والحقوقي، والمدني، وأخرى تشكّل تجمّعات لحماية مصالح محدَّدة أو الدفاع عنها.

الديمقراطيّة التشاركيّة

لهذا السبب لا يستقيم الحوار المدني إلّا إذا توافرت شروط وضع إطار معياري يحدِّد مقتضيات «الحوار»، ويشجّع على بلورة فضاءاتٍ للمناقشة المفتوحة والمنتظَمة بين ممثّلي السلطات العمومية والنسيج الجمعوي. كما يشترط الحوار المدني التأسيس الفعلي للديمقراطية، بآليّاتها ومظاهرها كلّها، بحكم أنّها أصبحت، اليوم، الشكل النموذجيّ للتدبير السياسي الجيّد للشؤون العامّة، إذ بتحرُّر المجتمع من التسلّطية وانتقاله إلى الديمقراطية، يتعرّف إلى نمطٍ سياسي، إذا لم يكُن كاملاً، فإنّه على الأقلّ أفضل من غيره، أو أقلّ سوءًا كما يرى مَن ينتقده.

ومعلوم أنّ الديمقراطية تنهض وتتوطّد بإطلاق الحرّيات، وتحفيز الناس على المُشاركة في المؤسّسات التمثيلية، أو في الشأن العامّ من خلال تنظيمات المجتمع المدني؛ فإلى جانب الديمقراطية التمثيلية، التي تمتلك ضوابطها ومؤسّساتها، وأدوارها السياسية، نجد أطراً متجدّدة لما يُنعت بـ«الديمقراطية التشاركية» التي تعبِّر عن أشكالٍ مختلفة للمُشاركة المُواطِنة، لسببٍ أساسيّ هو أنّه لم يعُد من المُمكن اختزال الاختيار الديمقراطي في ورقة التصويت وفي الأغلبية العدّدية.

لذلك تشكّل الجمعيّات مشاتل لتكوين نخب مُواطِنة قادرة على الانخراط في مناسبات «الحوار المدني» التي تمثِّل آليّات للمُشاركة ممتدَّة في الزمان، ولا تخضع لمواعيد انتخابية، أو لاعتبارات مصلحية، اللّهمّ إلّا تلك التي تندرج من ضمن المصلحة العامّة، أو تستجيب لانتظارات الفئات التي ترفض مسلسلات الاقتراع. فهيئات المجتمع المدني، بإسهاماتها في تطوير آليّات المُشارَكة، تُعزّز العمل الديمقراطي وتجذّره، وتتحوّل إلى هيئات وساطة لحلّ النزاعات، وإلى فاعلين اجتماعيّين يشاركون في المُناقشة العموميّة، وفي عمليات اتّخاد القرار؛ وهو ما يطوِّر الفعل المدني، ويُغني المُمارسة السياسية.

لذلك لا تتساكن التسلّطية مع مقتضيات الحوار المدني، لأنّها لا تتحمّل ثقافة المُناقشة، والمُطالبة، وأحرى المحاسبة. كما أنّ الأصوليّات الدينية تنزعج من الحرّيات ومن تحرّكات المجتمع المدني وتعمل، كما يظهر في بعض التجارب العربية، على التضييق على تعبيرات هذا المجتمع، وتعوِّم النسيج الجمعوي بتنظيمات وجمعيات تتقدّم بوصفها تمثّل شرائح مجتمعية في حين أنّها تشكِّل أذرعًا دعويةً للأحزاب الدينية التي أنشأتها هنا وهناك.

فكيف يُمكن إقامة أطر مؤسّسية كفيلة بتوفير شروط إطلاق ديناميّة الحوار المدني؟ إلى أيّ مدى يُمكن للنسيج الجمعوي أن يُسهم في إعادة بناء المُمارسة السياسيّة في ظلّ تنامي قوى تلتجئ إلى المقدَّس وإلى الدّين للتشويش على عملية المُشارَكة والانخراط المواطَني؟

لا أحد يمكنه الادّعاء بأنّ الديمقراطية التمثيلية استنفدت إمكانيّاتها حتّى في البلدان العريقة في العمل الديمقراطي. أمّا في حالة أغلبيّة البلدان العربية، فهي لم تجرّبها اعتماداً على دساتير ديمقراطية بالفعل، وانتخابات حرّة ونزيهة، وتداول سلميّ على المسؤوليّات. كما أنّه لا مجال للقول إنّ الديمقراطية التشاركية تمثِّل بديلاً عن التمثيلية بسبب كفر الناس بالسياسة. فمقتضيات الحوار المدني تندرج من ضمن فهمٍ عَصريّ للعمل السياسي الديمقراطي، ويصعب استنباته داخل بيئة تعوّدت على الفكر الوحيد، وعلى قيَم ثقافية واجتماعية، وحتّى سياسية سابقة، إن لم تكُن لا تتماشى مع مستلزمات زمن العالَم وقواعده، بما فيها الحكمة السياسية.

ومعلومٌ أنّ الانتقال إلى الديمقراطية سيرورة تحتمل مسارات عدّة، وتفترض عقلاً تركيبيًّا يمتلك ما يلزم من شروط الوعي الثقافي والسياسي، ويوظِّف المُكتسبات والتراكمات لإنجاز عمليّة الانتقال، وتعميق فعل التغيير. ولأنّ التغيير مركّب يتدخّل فيه فاعلون مختلفون، فإنّ أعقد ما فيه وأصعبه هو إعادة البناء، ولاسيّما بعد زمنٍ طويل من التسلّطية، وتاريخٍ من الاستبداد متجذّر في الذهنيّات والسياسات.

لعلّ سيرورة الانتقال إلى الديمقراطية تتمثَّل في المجهود الجماعي المسنود بقوى حاملة لمشروع الانتقال، ومُلتزمة بترجمته في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. ففي عمليّة كلّ انتقال، مقاومات وقوى اجتماعية ليست لها مصلحة في الانفتاح، بحكم أن هذا الأخير يعتمد، من بين ما يعتمد عليه، آليّات الشفافية والمُحاسبة. كيف السبيل إلى إعادة بناء مجالٍ سياسي مبني على الحرّيات والحقوق والعدالة والكرامة، بما فيه إدماج آليّات الحوار المدني؟

الجواب العَمليّ عن هذا السؤال يُدخل الفاعلين الرئيسيّين في مَعمعة إعادة ترتيب الاختيارات السياسية قياسًا إلى انتظارات المجتمع. وتمثّل هذه العملية أولويّة تأسيسية في المجتمع العصري؛ إذ كثيرًا ما نجد آراء تؤكّد، في خضمّ ما تشهده ظروف العالَم العربي وتوتّراته، على أنّ التحرُّر من الاستبداد يبدأ بالبحث عن المرتكزات الدستورية والمرجعيّات القانونية والاعتبارات السياسية، أوّلاً وقبل كلّ شيء، وتَعتبر أنّ هذا التحرّر مُمكن بفضل قناعات الفاعلين السياسيّين والاجتماعيّين، وعلى مُمارسات الأحزاب السياسية والنخب القياديّة. ولأنّه لا يُمكن الاستهانة بهذَين العاملَين (المرتكزات الدستورية ودَور القيادات...)، فإنّه يتعيّن إدراج هذه الحركيّة في سياق وعي واضح بأهمّية القواعد الاجتماعية للديمقراطية ولمكانة النسق السياسي داخل المجتمع.

غير أنّه لا يُمكن اختزال العمليّة الديمقراطيّة، من التحضير للانتقال إلى المسار الموسوم بالتحوّل إلى الديمقراطية، إلى استنباتها وتوطيد أركانها، في الاتّفاق على مرجعيّات معياريّة، قانونية ومؤسّسية، فقط، لأنّها، وكما تمّت الإشارة إلى ذلك، تَستوجب تغييرًا مستمرًّا في أساس البناء الثقافي لمكوّنات الجماعة الوطنية وعمقه، وفي علاقات الأفراد، الذين من المفروض أن يكتسبوا صفات المُواطَنة وحقوقها وواجباتها، مع مختلف البنيات الاجتماعية والسياسية والإدارية. إذ ينهض تفاعلٌ دائم، في مسار الانتقال، بين إرادة التغيير وقدرة الفاعلين الاجتماعيّين على صوغ مقتضيات الثقافة والمُمارسة الديمقراطيّتَين وبنائهما وتحقيقهما.

الفاعلون في صنع الحوار المدني، هُم أولئك الذين يتّخذون شكل تجمّعات وتنظيمات لها قابليّة وقدرة على الإسهام في إعادة بناء مجال سياسي ومدني مؤطَّر بمرجعيّات حقوق الإنسان. قد تكون هذه التجمّعات والتنظيمات من طبيعة سياسية، أو تتحرّك داخل ميدان اجتماعي وثقافي وبيئي واقتصادي وإعلامي. وفي سياق الانتقال، لا ينحصر دَور الفاعلين الاجتماعيّين في اعتبارهم ذواتاً للفعل التغييري، وإنّما يصبحون ذواتاً وموضوعات للتغيير التي يفترضها التحوّل، ما دام الفعل المُواطَني يفضي إلى تبديلٍ دائم لأنماط التفكير ولأنواع المُمارسات التي يُنجزها الفاعلون.

■ كاتِب ومفكّر من المغرب

ينشر المقال بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي