أفكار وآراء

التنمية ولغتها

06 ديسمبر 2017
06 ديسمبر 2017

مصباح قطب -

تكرر الأمر في اكثر من محفل وعلى مدار سنوات. الأمر الذي أشير إليه هو انصراف الصحفيين والإعلاميين عن التركيز في المتابعة خلال المؤتمرات وورش العمل والندوات التي تنعقد لمناقشة قضايا التنمية المستدامة والنمو الاحتوائي وما يرتبط بهما. وبرغم الأهمية البالغة لهذا الملف في حياة الأمم والشعوب ولمستقبل الإنسانية ذاتها إلا ان شيئا غامضا دائما ما يبعدنا عن منح الانتباه الكافي الى ما يدور في النقاشات أو الحوارات الخاصة بذلك. ويزيد من تعقيد الموقف ان الحوارات يتحدث فيها غالبا خبراء من العيار الثقيل، لهم تأثيرهم في الساحات الدولية ولهم إسهاماتهم المشهود لها في ساحة علم الاقتصاد وشؤون مكافحة الفقر وتحقيق العدل والإنصاف الاجتماعيين ومواجه كل أشكال عدم المساواة.

كنت أتصور ان مثل هذا الأهداف النبيلة يجب ان تلقى كل عناية من المهني ومن الصحف والقنوات، بل وإلا يكون الاهتمام بها موسميا أو قاصرا على تغطية ندوة او الكتابة عن تقرير دولي بهذا الشأن صدر أو سيصدر والإشارة الى بعض ما فيه من أرقام وكفى .. لكن الحاصل واقعيا شيء مختلف.

أعاد إلى ذهني نفس الحالة لقاء تم عقده منذ أيام بالقاهرة بمشاركة إحدى كبريات غرف التجارة المشتركة وإحدى وكالات الأمم المتحدة ولجنة تضم خبراء دوليين ورجال أعمال ومؤسسات المجتمع المدني وممثلين للعمال وللحكومات مهمتها وضع قواعد تحفيز ومراجعة دور القطاع الخاص في تحقيق التنمية المستدامة.

تشتت انتباهنا نحن الصحفيين بعد وقت ليس بالطويل من انطلاق الندوة وتاهت منا الحكاية كما يقولون . وكما هو معروف فان الصحفي عادة ما يسأل نفسه في كل لقاء أو حدث وبعد مضي وقت مناسب من بدايته: ما الذي سأخرج به من هنا ؟ وماذا اكتب وما المفتتح وما العناوين التي سأخرج بها والموقع الذي سيحتله التقرير في الصحيفة تقديرا لدرجة أهميته؟ فإذا لم يجد إجابات مريحة فسرعان ما ينصرف ذهنه وينتقل الى الخطوة التالية، وسيعمل الواجب وكفى، أي الكتابة بلا قلق ودون ابتكار وبمعنى آخر كتابة تقرير نمطي مع إبراز بعض الأرقام التي يمكن ان تلفت انتباه القارئ حتى وان كانت ليست جديدة !.

وإذ تخلقت هذه الحالة من جديد، أو هكذا تصورت، استيقظ السؤال في داخلي : كيف يحدث ذلك حتى معي والمفترض أنني أنتمي الى مدرسة سياسية تولي اكبر اهتمام لقضايا الاحتواء الاقتصادي والشمول والعدالة الاجتماعية بمعناها الحقيقي والاستدامة والحفاظ على البيئة وتمكين النساء ورعاية المشاريع الصغيرة والمتوسطة ؟ وكل تلك أهداف أيضا لمن يتحدثون أمامي الآن وبجدية بالغة...أين الخلل فيما يجري، أو على رأي قول الشاعر: إذا راق مبناها ففيم خرابها وإذا لم يرق فممن أتى العيب ؟.

بعد تفكير وتأمل توصلت الى عدة نقاط اقترحها هنا في محاولة للتفسير. أول الأمر هو اللغة. ان اللغة المكتوب بها تقارير التنمية والاستدامة والاحتواء لغة استاتيكية الى حد كبير ولا أقول بدرجة مزعجة، ويعود جانب من فقدان حيويتها الى الترجمة . فالمؤسسات الدولية ولأنها تعبر عن تطلعات ومطامح دول وشعوب مختلفة حريصة على تجنب والى أبعد حد وجود أي حمولات انفعالية في الألفاظ أو استخدام الجمل المجازية حتى لا يساء تفسيرها أو حتى لا يبدو ان تلك المؤسسات - سواء البنك الدولي أو البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أو صندوق النقد أو حتى المؤسسات التنموية الإقليمية - متحيزة لجهة أو لوجهة نظر بعينها، ومن ثم فان المترجمين أيضا عليهم ان يلتزموا بهذه الفلسفة، وقد كنت أظن في البداية ان وجود مدرسة ترجمة واحدة هي التي يستعان بها في اغلب التقارير التنموية الدولية أو الإقليمية هو السبب في إصابة اللغة بشبه موات، ولعلني قد ظلمت أصحاب تلك المدرسة، فقد تبين لي ان مترجمين من مدارس مختلفة وجنسيات مختلفة عربية، يستخدمون نفس اللغة إذا أنيط بهم ترجمة واحد أو اكثر من تلك التقارير من لغاتها الأجنبية الى العربية.

العامل الثاني من وجهة نظري هو مدى حميمية ما هو دولي أو عالمي بالنسبة لنا معشر الصحفيين وكذا القراء أو حتى المواطنون العاديون، فالتقارير تتحدث عن شعوب مختلفة ودول واقتصادات وفقر وبؤس وجهل وغنى وثراء ومشاريع ومليارات وتمويل ومؤشرات مهيبة، لكن في صورة مجملة، وذلك كي تعبر عن اتجاهات العالم كله وأقاليمه، وان عرضت في فقرات أو فواصل لحالات في هذه الدولة أو تلك، وبالتالي فان قليلين هم من يرون فيها همومهم أو ما يلفتهم ويشد انتباههم. ان الملاحظ عموما ان قراء الصحف ومتابعي الميديا وغيرهم يمنحون حدثا عن انتحار شاب أو شابة في ظروف معينة وبطريقة معينة بسبب الفقر أو البطالة أو الفشل أو الحب أو الكره، وفي أي دولة من العالم، اهتماما اكبر بكثير من تقارير علمية تتحدث عن موت ملايين بسبب الجوع والبرد والأوبئة والحروب .

إذن التقارير الدولية بعمومياتها بعيدة بطبعتها عن تحريك المشاعر والمشاعر هي في الغالب عين القراءة عند معظم الناس.

والعنصر الثالث الذي أتصور انه يقود الى قلة العناية الصحفية بتقارير التنمية المستدامة، هو أنها تتناول قضايا بعيدة الأجل أو طويلة الأمد، وهي قضايا من النوع الذي لا تحدث فيه تغيرات ذات دلالة في المدى القصير مهما كان الجهد المبذول من المؤسسات العالمية أو الدول، فخفض نسبة الفقر والقضاء على المدقع استلزم نحو 15 عاما ولم يتحقق ولا زال الشوط طويلا وهكذا تحويل أي اقتصاد نام - أو متقدم - الى اقتصاد اخضر أي صديق للبيئة ومحتشد بالديناميات وقادر على الاستمرار في النمو وتلبية مطالب السكان مع الحفاظ على نقاء الأنهار وسلامة البحار والأجواء وعدم تكدس النفايات والتخلص من الأمراض الوبائية عموما كل ذلك أيضا يأخذ وقتا طويلا ولا يمكن أيضا ان يتحقق - في جوانب مثل البيئة - إلا بتعاون دولي واسع وهذا أمر غير مضمون ولا يملك أي طرف ان يلزم به الآخرين، وقد رأينا مؤخرا كيف انسحب الرئيس ترامب بكل بساطة من اتفاقية باريس للمناخ .

كل ذلك يجعلك كصحفي أو قارئ أو حتى إنسان عادى غير قادر على الاندهاش أو الاستمرار في قراءة مطولات تتحدث عن هذه الأمور مهما كان قدر الذين اعدوها أو كان صيتهم.

والطريف في هذا السياق انه يبدو ان القائمين على إعداد مثل تلك التقارير الدولية ادركوا الصعوبات التي يعانيها المتلقون مع تقاريرهم فبدوا منذ اكثر من سنوات يولون عناية فائقة باختيار صور للنشر في التقارير ذات جودة عالية وبعدسة مصورين محترفين لإظهار ما تحقق في هذا المشروع في ذلك البلد أو غيره، وإلقاء الضوء على قصص نجاح لنساء خرجن من الفقر، أو قرى انتهى فيها مرض منا أمراض الاطفال الخطيرة وهكذا.

الصور في النهاية جهد طيب ومسؤول بيد انه خلق مشكلة أخرى غريبة إلا وهي ان الواقع يبدو في تلك الصور زاهيا اكبر بكثير مما يلمسه المواطنون في الحياة والتالي ينظر البعض الى تلك التقارير المصورة باعتبارها أوراقا لا تقول ما يجب قوله من حقائق أو هي تحاول تزويق الصورة .

ليس لدى مقترحات محددة لتغيير ما سبق فقد أولى القائمون على الإعلام والتواصل في الكثير من المؤسسات الدولية المهتمة بالتنمية المستدامة والرخاء الاقتصادي والرفاه المجتمعي رعاية ضخمة لتطوير أدواتهم بحيث يمكن القول ان الكثير من المواد الجاذبة حقا تصل الآن الى كل صحفي مسجل في قواعد بياناتهم بسرعة وسلاسة غير معهودة، كما انهم كثيرا ما يلبون طلبات الصحفيين ويردون بسرعة على ما يطرحونه من أسئلة حول ملفات بعينها، أو على مسؤولين بعينهم، لكن كل ما أود قوله ان يحاولوا استخدام لغة مختلفة تحمل معنى البشارة الطيبة بما هو آت في نهاية الطريق الطويل، وتعزز من فرص الإنسانية في ان تكون اكثر أمنا وراحة وعدالة وسلاما وعافية وعلما.