أفكار وآراء

الازدواجية السياسية.. العائق الأكبر لإصلاح الأمم المتحدة

05 ديسمبر 2017
05 ديسمبر 2017

بشير عبدالفتاح -

«إن الذي يريد أن يعطل عمل منظمة الأمم المتحدة لا يمكنه أن يأتي بقوانين ومبادئ وقواعد عمل جديدة أفضل من تلك التي وضعتها دول العالم مجتمعة» (جوتيريش)

إذا كانت عمليات الإصلاح والتجديد والتطوير هي بمثابة سنن كونية وشروط لبقاء الدول والمنظمات الدولية، مثلما تعد أسسا مهمة لتجديد قوتها وتفعيل أدوارها وتعظيم كفاءتها وتعزيز قدرتها على التكيف مع المستجدات والتعاطي الناجز والناجع مع المستحدث من التحديات العالمية، فإن توفر القناعة بضرورة وجدوى الإصلاح، كما الرغبة الصادقة أو الإرادة الصلبة لتحقيقه تعتبر شروطًا ومسوغات ضرورية لإتمامه وإنجاحه على النحو الذي يتيح جنى ثماره.

وانطلاقًا من تلك الكلمات المسطورة آنفا، في وسع المتتبع لمسيرة مبادرات وجهود ودعوات إصلاح منظمة الأمم المتحدة، أن يهتدي إلى أسباب عدم إيتاء تلك المساعي والتحركات لثمارها حتى يومنا هذا برغم تطلع كافة شعوب العالم إلى تلك الثمار وترقبها منذ عقود خلت لنيلها. فبادئ ذي بدء، تفتقد تلك التحركات الإصلاحية إلى الثقة والإرادة الدولية الجادة، حيث لا تزال دعاوى وجهود ومشاريع إصلاح الأمم المتحدة تتسم بالفردية ولا تخلو من أغراض ومآرب ترتبط بمصالح وحسابات أصحابها، كما تفتقد إلى إخلاص النوايا وصدق الإرادة والجدية في عملية إصلاح شاملة وحقيقية وبعيدة المدى، بحيث تطال ميثاق وأجهزة وسياسات تلك المنظمة.

وبناء عليه، لطالما قوبلت دعوات أمريكية لإصلاح المنظمة الدولية بتوجس بالغ من قبل الدول الأعضاء، بما فيهم حلفاء واشنطن وأصدقائها. ففي أغسطس الماضي، وبعدما نجحت واشنطن في إقناع نحو خمس عشرة عاصمة، بينها برلين ولندن، بتبني مشروع أمريكي يشدد على مسؤولية الأمين العام للأمم المتحدة عن إصلاح المنظمة الدولية، أبت كل من باريس وروما إلا عدم الانضمام إلى مؤيدي ذلك المشروع آنذاك مما أدى إلى تقويضه في مهده.

وبرأسها الشيطاني تطل الازدواجية الفجة في مواقف بعض الدول الأعضاء بالمنظمة الدولية حيال قضايا مصيرية شتى وملفات مهمة عديدة تتصل بمهام وأدوار تلك المنظمة، لتمثل أحد أبرز المعوقات التي تعرقل إصلاح وتفعيل عمل تلك المنظمة. ففي الوقت الذي يحض ميثاقها على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فضلًا عن مراعاة قيم ومبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، علاوة على تجفيف منابع الإرهاب وتقويض كافة دعائمه وأركانه، نجد دولا أعضاء في المنظمة الدولية تنتهك كل هذه النصوص والقيم والمبادئ مجتمعة، وبدم بارد. حيث نلاحظ، وبكل أسى وأسف، دولا يتشح سجلها في مجال حقوق الإنسان بالسوء والسواد بجريرة الخروقات والانتهاكات المتواصلة لتلك الحقوق، بينما تتمكن هذه الدول من انتزاع عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي يضم 47 دولة وتأسس في عام 2006.

ولقد عبرت نيكي هيلي، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، والتي تتولى منصبًا بدرجة وزير في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مقال نشرته بصحيفة «واشنطن بوست الأمريكية «مطلع شهر يونيو الماضي، عن استيائها من عضوية كوبا وفنزويلا، واقترحت التصويت على منع أكبر منتهكي حقوق الإنسان من الحصول على مقعد في المجلس.

كذلك، تراءى للجميع وللأسف الشديد إقدام بعض الدول على الحديث عن ضرورة محاربة الإرهاب وعدم إيواء الإرهابيين أوتدريبهم، بينما هي في واقع الأمر، غارقة حتى أذنيها في رعاية الإرهاب وتوظيفه لخدمة مصالحها وأغراضها التوسعية بأشكال مختلفة، وهو ما لفت إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، وإن كانت بلاده لم تسلم من اتهامات على هذه الشاكلة تحاصر إداراتها المتعاقبة منذ عقود طويلة مضت، بصور وأدوات شتى، وعلى مستوى بقاع العالم المختلفة.

وقد تجلى فى هذا الصدد إصرار واشنطن على غض الطرف عن المهام الإنسانية الكونية السامية للمنظمة الدولية المنبثقة من دورها في حفظ الأمن والسلم الدوليين وتعزيز التعاون العالمي، وذلك من خلال مواصلة الإدارات الأمريكية المتعاقبة جهود تقييد وعرقلة نشاط الأمم المتحدة، والمضي قدمًا في توظيفها لخدمة مصالحها وتطلعاتها الدولية، وهو الأمر الذي يتمظهر جليا في سياسات ومواقف أمريكية سلبية شتى منذ تأسيس المنظمة الدولية في عام 1945، بدءًا من دعم جهود إسرائيل، تلك الدولة الغاصبة، في انتزاع عضوية المنظمة للحصول على الاعتراف الدولي بها في عام 1948، مرورًا باستغلال واشنطن مقعدها الدائم بمجلس الأمن الدولي، فضلا عن نفوذها وهيمنتها على المنظمة الدولية، لحماية التجاوزات الإسرائيلية عبر الحيلولة دون صدور أية قرارات أممية تدين إسرائيل أو تجبرها على إعادة الحقوق المغتصبة والمسلوبة إلى أصحابها، ثم تجاهل أية قرارات إدانة لإسرائيل يمكن أن تصدر بمنأى عن السيطرة الأمريكية وتعطيل تنفيذها، وصولًا إلى التقاعس عن تسديد المستحقات المالية السنوية الأمريكية كاملة للمنظمة الدولية، ثم الانسحاب من اتفاق باريس المناخي مطلع الصيف الحالي، في خطوة أثارت انتقادات حادة ولاذعة لواشنطن من مختلف دول العالم، ثم التهديد هذا الصيف بالانسحاب من عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية عقابا له على إصدار قرارات أو توصيات «غير ملزمة» تدين الانتهاكات والخروقات والتجاوزات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين بالأراضي الفلسطينية المحتلة.

وربما يكون من غير الإنصاف، في هذا المضمار تجاهل أهمية الاعتبارات الاقتصادية عند الحديث عن معوقات إصلاح الأمم المتحدة، ذلك أنه لن يكون بمقدور تلك المنظمة الدولية أو حتى غيرها الاضطلاع بالمهام والأدوار المنوطة بها سواء في ظل أوضاعها الراهنة أو حتى بعد اعتماد برامج إصلاحية جديدة يتوافق عليها كافة الدول الأعضاء في ظل غياب الدعم الاقتصادي وتوفر الموارد التي من شأنها أن تعين أجهزة المنظمة المختلفة على القيام بواجباتها على النحو الذي يرتضيه الجميع، خصوصا في ظل تعاظم التحديات وتفاقم الأعباء المنبعثة من تنوع النزاعات وتزايد الصراعات وتعدد الأزمات التي تجتاح العالم بمرور الزمن.

من هنا يبرز التناقض المؤلم ما بين دعاوى إصلاح الأمم المتحدة و مساعي واشنطن الحثيثة لاقتطاع نصيب وافر من إسهاماتها المالية لهذه المنظمة الدولية حتى أضحت أكبر مدين لها من جانب، ودعوة باقي الدول الأعضاء إلى تقاسم الأعباء المالية في الأمم المتحدة، بالتوازي مع الدعوات الأمريكية المتواصلة لتقليص الميزانية السنوية للمنظمة الدولية من على الجانب الآخر . فبينما كانت الولايات المتحدة هي التي تقود الدعوة إلى تقليص الميزانية السنوية للأمم المتحدة حتى نجحت في تخفيضها بواقع 500 مليون دولار، أكد ترامب خلال اجتماع نيويورك الأخير الخاص بإصلاح الأمم المتحدة رفض بلاده أن تتحمل دولة واحدة هي الولايات المتحدة بالطبع، القسط الأكبر من الأعباء المالية حيث تعتبر واشنطن أكبر مساهم مالي في ميزانية الأمم المتحدة، إذ تؤمن وحدها 28.5% من 7.3 مليار دولار، هي موازنة عمليات حفظ السلام، و22% من 5.4 مليار تشكل موازنة عملانية. وهو الأمر الذي وصفه ترامب بغير العادل، لاسيما وأن «الولايات المتحدة لا ترى عائدات استثماراتها تلك».

يأتي ذلك التحرك الأمريكي التقويضي والاختزالي فيما يتصل بالدعم أو التمكين المالي للأمم المتحدة ،بينما يحذر الأمين العام للمنظمة الدولية من خطر «تقويض فاعلية» بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة جراء خفض النفقات، فيما يشكو دبلوماسيون بالمنظمة التداعيات السلبية لتقليص واشنطن دعمها للمنظمة الدولية وإلحاحها في تخفيض موازنة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للمنظمة الدولية إلى النصف، على أداء تلك المفوضية ،إذ من شأن ذلك التقييد المالي أن يقوض قدرتها على القيام بواجبها، خصوصًا أنها تعول على المساهمة الأمريكية التي تشكل نسبة أربعين في المائة من المخصصات السنوية لهذه المفوضية التي تعاني العوز الشديد بسبب تفاقم أعداد اللاجئين عالميًا وتعقد مشاكلهم في ظل انتشار الصراعات والحروب بشكل لافت خلال السنوات القليلة الماضية.

لعل هذا الموقف الأمريكي غير البناء فيما يخص التعاطي مع المنظمة الدولية، هو ما دفع بالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إلى الرد على دعوة ترامب لإحداث تغيير داخل الأمم المتحدة خلال الاجتماع الذي عقد بنيويورك مؤخرا لبحث إصلاح المنظمة الدولية، بالقول: «إن الذي يريد أن يعطل عمل منظمة الأمم المتحدة لا يمكنه أن يأتي بقوانين ومبادئ وقواعد عمل جديدة أفضل من تلك التي وضعتها دول العالم مجتمعة».