المنوعات

رواية دموع القاتل والصبيّ الذي صارت أذناه مثل الجناحين

05 ديسمبر 2017
05 ديسمبر 2017

ليلى عبدالله -

تلفت نظري الروايات التي يكون أبطالها أطفالا، صغارا في المرحلة العمرية غير أن أحلامهم تكاد تمتد لتحيط الكرة الأرضية بأكملها، من هذه الروايات رواية «دموع القاتل» للروائية الفرنسية «آن لولا لوندو» ترجمة «عبدالرؤوف الحباشي» عن دار بلومزبري- مؤسسة قطر للنشر2015م. لكن الطفل في هذه الرواية هو «باولو بولوفارد» تتبدل حياته بمحض الصدفة، في مكان دحض عن نفسه كل صدفات القدر، فكل ما يحدث في هذا المكان يحدث عن عمد، بعيدًا عن تمريرات الصدف. في منطقة نائية في جنوب تشيلي وكأنهم في آخر قطعة من الأرض حيث كل ما هو هامشيّ افتتحت به الروائية حكايتها بعبارة كصفعة يتلقاها المرء بمنتهى اليقين :« هنا، لم يصل أحد بمحض الصدفة. فهنا نهاية العالم» ويحدث أن هذا المكان المغلّف بالانعزال يؤّم المهاجرين، علماء الطبيعة، المكتشفين وشعراء كذلك، هو أيضا قبلة اللصوص والقتلى والسفاحين، أولئك الهاربين من جحيم المدن والفارين من قبضة الشرطة. وهنا تلتقي أقدار الطفل مع رجلين، يرتبط به كلاهما على نحو مثير للاهتمام، الرجل الأول هو «أنخل ألليجريا» القاتل، السفاح، الذي يقتل والدي الطفل «باولو» بدم بارد، بهذا التعارف الدموي الغريب تتوثق صلتهما معا، صلة يغلب عليها الغرابة، لأن هذا الرجل هو قاتل والديه غير أن طبيعة حياة «باولو بولوفارد» تكاد تختلف عن أي صبي عادي في مثل عمره فهو «صبي ولد دون حب يذكر، وكان ينمو كما ينمو كل شيء على هذه الأرض؛ أي ليس على أكمل وجه». بهذه الطريقة نما هذا الصبي وهو في رفقة والدين يبدوان لا مباليين منذ البدء حتى أن قتلهما لا يثير ولو قليلا من الشفقة عند القارئ! لكن الذي تخوضه الصراعات في عملية القتل هذه هو القاتل نفسه، ففي اللحظة الأولى التي وقعت عيناه على الصبي صار رجلاً آخر، وطفق ذاك العنف في جوفه، وتلك الوحشية في تعاطيه مع الآخرين تتبدد عن روحه المعذبة، لقد أفلح هذا الصبي بتركيبته في قلب روح هذا القاتل الشرير، أفلح في تصفية كيانه، وإيقاظ ذاك النفس الإنساني فيه.

لكن صلته بالرجل الآخر «لويس ساكوندا» أخذت طابعًا انفتاحيًّا بالكاد أن يكون صلته بالعالم الخارجي، سحبه من ثقب المحيط الذي كان فيه، علّمه القراءة، وجعله يستشعر بأهمية الكتب والفن في حياة الإنسان. ظلت حياة «باولو» متأرجحة بين هذه الرجلين، اللذين كان لكل واحد منهما حياة قد تقلب فيها، تلك الحيوات هي من دفعتهم إلى القفر الذي ترعرع فيه «باولو»، حبل تجاربهما امتد إلى هذا الصبي الشاحب تضربه الرياح حتى صارت أذناه مثل الجناحين، كان صفحة ملطخة بطين الطفولة وبراءة مطاردة الثعابين ثم صار تكوينه صبيًّا تعترضه أفكار عن معنى الحياة ومدى جدواها.

لكنّ أكمل تجاربه كصبي كانت مع الرجل الثالث «ريكاردو مورجا» الذي غلّفه بالدفء الذي تاه عنه في ردحٍ من الزمن، بعد موت والديه، وبعد مغامرات الفرار التي وجد نفسه منقادًا لها خلف الرجلين السابقين بتقلبات الأمكنة والأزمنة، هذا الرجل الذي فاق عمره السبعين، والذي خسر زوجته وأبناءه على يد قاتل مجهول في طرقات مدلهمة لتكشف الرواية الصدمة التي تكهرب الأفئدة؛ فقاتلهم هو نفسه «أنخل» الذي يضطرب حين يرى كم أن العجوز المتسامح والمحب هو مبعث جراحاته ومأساته كلها وعلى الرغم من كل ذلك يحيا على ذكريات الماضي، الذكريات التي تؤثث لحظاته الآنية المتبقية له في هذا العالم وسط أحراش غابة موحشة التي يعيشها وحيدًا إلا من ظلال أطفاله الذين يتراءون له آناء الليل وأطراف النهار كأنهم لم يغادروا يومًا. ووجد في «باولو» الضوء الذي ينير ظلال أبنائه الصغار الذين ما انفكوا يطبعون آثارهم في طرقات بيته.

تنتهي هذه الرواية الآسرة على حياة متوهجة للصبي «باولو» الذي يبلغ الثامنة عشر ويصير حراً بعد أن كفلته أسرة بعد أن ساق «أنخل» إلى السجن والذي يسمع خبر إعدامه بعد بلوغه الثامنة عشرة، ولم يكلف أحد نفسه إخباره طوال تلك السنوات التي مضت من عمره وهو حبيس أسرة الكفيل. لكنه يتجاوز تلك المرحلة من حياته على نمط اختاره مع زوجته التي أنجبت طفلة استوحى اسمها من اسم الرجل الذي قتل والديه والذي صار رفيق وجعه وأسراره «أنخلينا»، وكان «لويس» معلمه الذي علمّه الحروف وصناعة الكلمات يزوره بين حين وآخر كضيف خفيف الظل. عاش بسلام برفقة مكتبته الزاخرة بروائع الكتب، وبيته الذي صار سقفًا مريحًا يؤّم الغرباء من كل بقاع الأرض يندهشون من تأثيثه وروعة عوالمه، دفئها، وشساعتها في بقعة منفية و منسية من العالم.