أعمدة

نوافـذ: العبث بالحارات القديمة

05 ديسمبر 2017
05 ديسمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

عندما نسترجع بعضا من حلقات «باب الحارة» هذا العمل السوري الرائع نجد أنفسنا منساقين إلى شيء نفتقده، حيث نبحث عنه بين زوايا هذه الحلقات التي تأتي مسترسلة إلينا عبر ذلك الزمن البعيد الذي لم يبق منه غير هذه الإطلالات التي تنتقد ذاكرتنا التي غيبت الشيء الكثير مما كانت تضمه الحارات في مفهومها القديم، فما فقدته الذاكرة وغيبته السنون، أو تكاد الشيء الكثير، حيث تحول إلى صور مشوهة من حلم لم تختزنه الذاكرة كثيرا، وفي هذا الاسترجاع ما يوقد في النفس شيئا من الألم حقا، هنا لا نبحث عن ممارسات محتل، فذلك شأن سوري عاشه ذلك الشعب الشهم في وجه الغزاة كما هو في تلك الحلقات في هذا المسلسل الرائع، ولكننا نبحث في محليتنا، في حاراتنا القديمة التي تتباكى وتنتحب، لأنها غيبت سكانها بين طبقات الأرض، نبحث عن الروح الساكنة بين منازل خلت من سكانها، وبين سكك انعدم فيها المارون، وبين مجالس كانت في يوم من الأيام تعيش الصخب، والرأي، والتنازع، وتقاطعات المصالح الفردية والجماعية، وتبكي أكثر لأن الخلف أصبح أقسى في إهمالها، وتسليمها بضاعة «مزجاة» لعمالة وافدة لا تعي قدر هذه الحارات الجميلة التي تحمل تاريخ شعوب عاشت بينها، ولا تزال شاهد عصر على قسوة الزمن، ونكران جيل لمكانتها وحظوتها الإنسانية التي كانت.

في هذا العبث اليوم، من هذه العمالة التي لا تعي قدر ومكانة هذه الحارات، الكثير من الممارسات، ولكم قرأنا عن مداهمات كثيرة تقوم بها الجهات المعنية لأوكار هذه العمالة التي تتم فيها مختلف الممارسات القذرة والخطيرة، والخارجة عن القانون، وإن كان هناك من عذر لهذه العمالة التي تشوه هذه الحارات بأفعالها المستنكرة لعدم معرفتها بأهميتها ومكانتها في قلوب أبناء المجتمع، فما العذر لأبناء المجتمع الذين سمحوا لمثل هؤلاء الـ«غرباء» بأن يتواجدوا بين الجدران الأربعة لهذه الحارات، وهي التي كل غرفة فيها تحكي قصة شعب، وحياة مجتمع، ضمتهم في يوم من الأيام، وكانت الأم الحنون، والأب الرؤوم، حيث تكتظ الأجساد من هؤلاء العمالة في الغرف الضيقة في هذه الحارات، وما يضيفونه فيها من غرف إضافية بعيدا عن أعين الرقابة من الجهات المعنية؛ وخاصة في الإجازات، ويتولون في الوقت نفسه تأجير هذه الغرف لزملائهم الآخرين؛ في ممارسات من التجارة المستترة، مع معرفة وكلائهم بهم، وبتصرفاتهم، وهذا ما يؤسف له حقا، ومن خلال هذه الأماكن التي أصبحت أوكارا لممارسات كثيرة يسرح ويمرح هؤلاء بعيدا عن أعين الرقيب، والتلاعب في الكثير من السلع التي تعرض على المتسوقين في اليوم التالي، فوق ما يقومون به من صنع الأكلات الشعبية التي تعرض في المحلات التجارية بطرق فيها خطورة كبيرة على المستهلك، كل ذلك يحدث في هذه الزوايا المظلمة بعيدا عن النور.

نعي جميعا أنه يجب أن تكون لهذه الحارات قدسيتها الاجتماعية؛ لأنها تحمل بين دفتيها الكثير من التاريخ، والكثير من القيم، والكثير من التقاليد المتسامية نحو الخلق الرفيع، والكثير من الذكريات؛ لذلك يصبح التلاعب بكل هذه المقدرات من فئات لا تعي أهميتها في حكم التطاول على القانون، والتطاول على قيم المجتمع، وفوق أنها كنز تراثي مهم؛ وضياعه خسارة كبيرة لا تعوض في الوقت الذي يجب فيه أن توظف هذه الحارات التوظيف الذي يليق بمكانتها التاريخية والاجتماعية، كأن تهيأ لأن تكون مزارات سياحية تعرض فيها مختلف المشغولات التراثية التي تشتهر بها الولاية التي تضمها، ولا أن تهان بمثل هذا العبث الحاصل اليوم، ويقينا لن تعمر بهذا الواقع الذي تعيشه بهذه الطريقة.