أفكار وآراء

مفاجآت وثائق .. اغتيال كنيدي !

04 ديسمبر 2017
04 ديسمبر 2017

عماد عريان -

كثير من المؤامرات السياسية التاريخية لم تكن مكتوبة، ولكن كانت هناك نقاط التقاء مصالح حتى بين الأطراف المتضادة التي تسير في خطوط متوازية نحو هدف واحد دون أن تلتقي مطلقا وإن التصق بكل منها إنجاز الهدف ذاته، وقد لا تعرف الحقيقة كاملة عن المسؤول الحقيقي وراء حادثة أو واقعة ما، ليبقى الغموض سيد الموقف مهما طال الزمن.

ولعل حادثة اغتيال ومصرع الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي هي واحدة من تلك الوقائع التي يظل الفاعل فيها مجهولًا إلى الأبد، والمقصود طبعًا الفاعل المدبر والعقل المخطط للجريمة، وليس مجرد الشخص الذي أطلق الرصاصة، وحتى مع نشر وثائق الواقعة –أو الجانب الأعظم منها– بعد مرور نحو أربعة وخمسين عامًا على حدوثها، فإن ذلك قد يزيد الحادثة غموضًا دون فك طلاسمها ومعرفة أسرارها.

فرحيل الرجل كان مطلبًا ملحًا -في حينه- لعديد من الأطراف الداخلية والعالمية التي رأت أن تحقيق مصالحها والحفاظ عليها يكمن في قتله واختفائه من المسرح السياسي تمامًا، وهذا ما قد يفسر تعدد سهام الاتهامات التي وجهت منذ رحيله إلى أطراف عديدة -لا رابط بينها- دون أن تستقر في صدر طرف منها، فتراوحت الاتهامات ما بين كوبا وموسكو من ناحية، وصناعات الصلب ومجمع الصناعات العسكرية الأمريكي، وقوى يمينية متطرفة داخل الولايات المتحدة من ناحية أخرى، وأخيرًا إسرائيل! وما يثير الاهتمام في هذا المقام هو ذلك المتعلق بالدور الإسرائيلي «المحتمل» الذي تردد على سبيل الاجتهاد في سنوات سابقة ولكنه الآن أصبح مدعومًا بوثائق رسمية ترى أن إسرائيل تدخل بالفعل على خط «المؤامرة» حيث حملت وثائق الاستخبارات الأمريكية التي نشرها مركز الأرشيف الوطني الأمريكي في الأسابيع القليلة الماضية، الكثير من الأحداث والمفاجآت التي انتظرها العالم لخمسة عقود وأكثر.

وتكشفت إحدى الوثائق السرية -مثلما نشر وأعلن- عن زيارة «جاك روبي»، قاتل المتهم الرئيسي في اغتيال كنيدي لإسرائيل، وتأتي هذه الوثيقة مؤكدة للأقوال التي أثيرت في فترات ماضية وأثارت الكثير من الشكوك حول المتهم الرسمي في عملية الاغتيال «لي هارفي أوزوالد» بأن يكون المسئول الوحيد في الاغتيال، وأوضحت الوثيقة أن روبي الذي يملك ملهى ليليًا زار إسرائيل برفقة زوجته عام 1962 ما بين 17 مايو، و7 يونيو من العام ذاته، لتكون هذه الوثيقة معززة للشكوك التي دارت حول تل أبيب وعلاقتها بالاغتيال، وكانت اتهامات قد وُجهت إلى إسرائيل، بعد الكشف عن تبادل كنيدي رسائل مع الرئيس المصري -آنذاك- جمال عبد الناصر تتعلق بالقضية الفلسطينية، وقيل إن كنيدي وعبد الناصر اتفقا على حل للقضية الفلسطينية، يتم تطبيقه بإشرافهما.

ونصل هنا إلى بيت القصيد والمراد من هذه السطور، فقضية اغتيال كنيدي لن يسهل الفصل فيها بسهولة أو معرفة فاعلها مثلما سبقت الإشارة حتى مع نشر عشرات آلاف الوثائق المرتبطة بالواقعة، ولكن أوراقا أخرى هامشية قد تكشف عن حقائق أخرى بطريق المصادفة تتعلق بقضايا تهمنا نحن الدول الشرق أوسطية وربما من بينها وفقا للوثائق المنشورة ما يتعلق بالدور الإسرائيلي في «اغتيال» الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وتدمير مشروعه التحرري ونسف محاولاته المبكرة لإنهاء صراع الشرق الأوسط وإقامة سلام حقيقي في المنطقة، والمقصود طبعا «اغتياله» معنويًا وسياسيًا في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من مستوى، ومن أكثر من طرف جمعت بينهم مصالح مشتركة على التصدي لهذه الخطوات ووأدها مبكرًا حتى تظل المنطقة فوق سطح صفيح ساخن، لا تعرف للاستقرار أو السلام الدائم طريقًا ولا معنى.

ولعل ذلك ما قد يدفع الكثيرين -أو ربما يفرض عليهم- لإعادة قراءة أحداث سابقة لتقييمها بشكل مختلف وفقًا لحقائق جديدة لصياغة نتائج وتصورات حقيقية ومختلفة ولو بأثر رجعي، فحتى أيام قليلة مضت، كانت السهام النارية تطال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وتحمله مسؤولية الهزائم التي حلت بالعرب في الحروب مع إسرائيل، واتهامات أخرى بتبني سياسات انعزالية وعدم التفاعل مع العالم -الغربي منه على وجه الخصوص- وفتح الباب أمام الشيوعية في الشرق الأوسط !

ولأننا هنا لسنا بمعرض تقييم الحقبة الناصرية، فلها ما لها وعليها وما عليها، وتناولها الكثيرون بإيجابياتها وسلبياتها في مناسبات ومواضع متعددة، فقد يكون من المناسب الإشارة إلى أن ما نشر من وثائق مقتل كنيدي يحمل أدلة وبراهين براءة واضحة للزعيم الراحل من الاتهامات المرسلة المشار إليها أو معظمها على أقل تقدير خاصة لو وضعت في إطارها الشامل مع أحداث عالمية أخرى مثل اغتيال كنيدي، فالرجل لم يكن انعزاليا أو منغلقا بدليل اتصالاته مع كنيدي واتفاقهما على خطة لتسوية القضية الفلسطينية تحت إشرافهما وفقًا لما كشفت عنه الوثائق، ما ينفي عنه أيضا تهمة نشر الشيوعية في المنطقة بدليل تعامله مع رئيس أكبر دولة رأسمالية في العالم.

ليس هذا فحسب، ولكن الوثائق تؤكد مجددًا أن عبدالناصر كان مستهدفًا ومشروعه القومي كذلك، وأن الحروب التي دبرت ضده لم تكن سوى مؤامرة كبرى من دول معروفة بعينها سواء في حربي 1956 و1967 التي يبدو أنها أصبحت حقيقة واقعة بعد اغتيال كنيدي المتحمس لتسوية الصراع الفلسطيني/‏‏الإسرائيلي، وسواء استدرج عبدالناصر إلى الحرب أو سعى إليها، فقد كانت واقعة لا محالة كونها مطلوبة من قوى التآمر الدولي لتحقيق أكثر من هدف لمصالحها الذاتية كضرب المشروع الوطني للرئيس عبدالناصر والحيلولة دون منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.

هذه الوثائق تكشف في جانب منها أدلة براءة عبدالناصر مما نسب إليه، كما تكشف محاولات اغتياله معنويا في أكثر من مناسبة بالمؤامرات العالمية عليه وبالانتقادات الشخصية المسيسة التي استهدفته وحملته جرائر جرائم أو أخطاء لم يرتكبها، وإنما هي مؤامرات تتجاوز قدرات قوى كبرى، حتى الولايات المتحدة ذاتها، لقد كانت جريمة قتل كنيدي مؤامرة كبرى بالفعل، ولكن وثائقها تفتح الأعين أمام مؤامرات أخرى مثلما سبقت الإشارة، وقد يكون ذلك مفهوما كممارسة طبيعية من جانب قوى عالمية معينة، إلا أن المؤسف أننا قد لا نستوعب الدروس أو الحقائق بسهولة، فنندفع بأيدينا نحو اغتيال الرموز وتشويه صورتهم في حملات تعكس أبشع صور الاغتيال المعنوي ونتجاهل ما حاك لنا وللمنطقة من مؤامرات، لا يزال الكثير منها يمارس حتى اليوم لتدمير المنطقة وقدراتها ومواردها أو لاستنزافها حتى الرمق الأخير.

وتبقى للوثائق التاريخية أهميتها في هذا السياق، فعبر الأطلنطي وفي لندن على وجه التحديد كانت وثائق بريطانية أخرى تكشف في الوقت ذاته عن مؤامرات استعمارية كبرى لاغتيال عبد الناصر ومشروعه القومي الكبير، حيث تؤكد تلك الوثائق أنه لم يكن التخطيط للعمل العسكري مع فرنسا وإسرائيل،خلال العدوان الثلاثي هو خطة بريطانيا الوحيدة لمحاولة استرداد السيطرة على قناة السويس بعد أن أمم الرئيس جمال عبد الناصر الشركة المالكة لها في 26 يوليو 1956 لتعود للشعب المصري، صاحب الحق الأصيل فيها، فقد كشفت الوثائق البريطانية أنه قبل العدوان الثلاثي، بحثت بريطانيا خطة لقطع مياه النيل لإجبار نظام حكم ناصر على التراجع وإشراكها في إدارة القناة، وشملت الخطة محاولة استغلال الخلاف بين مصر والسودان بشأن مياه النيل في حشد تأييد الحكومة السودانية لمشروعها.

وبدون شك تؤكد تلك الوثائق الأمريكية – البريطانية أن الرجل لم يكن منفلتًا في أحلامه ولا مخرفًا في تصرفاته ولا جامحًا في سلوكياته، ولكنها المؤامرات العالمية الكبرى التي لا تسمح لأصحاب الأحلام الكبيرة بأن تعلو رؤوسهم أكثر من اللازم، فتكون خطط الاغتيال هي الحل، ماديا كما حدث مع كنيدي، أو معنويا كما هو الحال مع ناصر، وليتنا ننتبه في حاضرنا وأيامنا تلك إلى حجم المخاطر المحيطة بنا، ولا ضرر في الاستفادة بما حدث ومما جرى، حتى ولو بأثر رجعي.