1179478
1179478
إشراقات

د.علي العشي: الواقع يحتم علينا ترشيد الاختلاف والوصول إلى واجب الائتلاف

30 نوفمبر 2017
30 نوفمبر 2017

الفكر يجابه بالفكر .. وليس بالقتل والإجراءات العقابية -

كلما ضاقت الحرية تفرق الناس وكلما اتسعت اقترب الناس من بعضهم بعضا -

حــــاوره:سالم بن حمدان الحسيني -

أكد الدكتور علي العشي الأستاذ بجامعة الزيتونة - مدير قسم الدين بالجامعة في حوار خاص لـ عمان أن قضية الخلاف بين الأمة الإسلامية اليوم هي قضية فكر ولا يمكن أن يجابه الفكر بالقتل وبالإجراءات العقابية.. بل الأولى أن يجابه بالحجة والبرهان.. مبينا انه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قتل مخالفا له في الرأي بل يحاوره، وقد وثق التاريخ ذلك. وأوضح قائلا: إن واقعنا اليوم يحتم علينا أن نستفيد من بعضنا البعض وأن يكون ديددنا ترشيد الاختلافات الموجودة حتى نصل من ترشيد الاختلاف الى واجب الائتلاف فينبغي أن يأتلف المسلمون بين بعضهم البعض ويسعهم ذلك فربهم واحد ونبيهم واحد وقرآنهم واحد ودينهم واحد، والوحدة خير من الخلاف.. موضحا اننا لسنا مختلفين في أصول الدين التي هي أركان الإيمان الستة ولا مختلفين في أركان الإسلام الخمسة وجل الخلافات بيننا خلافات فروعية، فعلينا أن نذيب هذه الخلافات الموجودة بيننا وأن نكون على خطى الأنبياء والرسل عليهم السلام في تعليم الناس وتوجيههم نحو الطريق السوي وتوحيد الأمة والسير بها نحو الخير حتى تعود على ما كانت عليه في بداياتها وصفائها.. فإلى نص الحوار:

كيف تصفون واقع المسلمين اليوم .. وهل الخلافات الحاصلة بينهم هي قضية فكر أم قضية منهج؟

أجاب قائلا: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحرية متاحة، وهذه الحرية التي كانت مشاعة بين المسلمين جعلت الناس لا يختلفون على شيء؛ لأن أي قضية يريدون طرحها تطرح، فالحرية لم تكن مجرد مسألة فكرية كما كان في حال وضع اليونان قديما، فقد دونت المدونات في مسألة الحرية في الفلسفة اليونانية بل لم يتم التدوين في زمن الصحابة لمسألة الحرية بسبب أنها كانت واقعا معاشا، فالنبي صلى الله عليه وسلم حاوره اليهود في قضايا أقرب للعقيدة، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم .. (ويسألونك عن الروح، ويسألونك عن ذي القرنين) ووثق القرآن الكريم أسئلة اليهود الكثيرة ومناظراتهم ومحاوراتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة، ووثق القرآن الكريم أيضا مناظرة وحوارا مطولا للنبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، وهم كاليهود كانوا رعايا للدولة الإسلامية التي كان يحكمها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستنكف النبي صلى الله عليه وسلم من حوارهم، ولم يمنعهم ولم يأمر بقتلهم ولا بقطع رؤوسهم، وكانوا يحاورنه في قضية عقدية بامتياز، وهي القول الفصل في سيدنا عيسى عليه السلام، فهم يصرون على القول إنه رب ابن رب وإله ابن إله والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم أن عيسى لم يكن إلا بشرا نبيا مرسل من الله سبحانه وتعالى خلقه الله سبحانه وتعالى بمعجزة كبرى شأنه شأن خلق آدم .. (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، ولكن نصارى نجران أصروا على قولهم، ومع ذلك لم يأمر بقتلهم، جل ما هنالك أنه طلب منهم المباهلة، كما وثق القرآن الكريم ذلك: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) ولخوفهم من المباهلة رفضوها خوفا من أن تصيبهم اللعنة وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يباهلوه ولم يفعل لهم شيئا وهذه دلالة على أن الحرية كانت لها مساحات موجودة في دولة الإسلام.

قضية فكر

وأكد أن القضية هي قضية فكر ولا يمكن أن نجابه الفكر بالرصاص أو بالقتل أو بالسيف ولا يمكن أن نجابه الفكر عند الاختلاف بإجراءات عقابية، والأولى أن نجابه الفكر بالحجة والبرهان إذا كانت القضية فكرية .. مبينا أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مخالفا له في الرأي بل يحاوره، ويوثق التاريخ ذلك ولكن حين تقلصت مساحات الحرية وضاقت حتى أصبحت هوامش وصارت دولة الاستبداد أو دولة الملك العضوض استمرت تفعل فعلها في تاريخ هذه الأمة فبدأ ظهور الفرق، وأنا لدي قناعة بأن الحرية كلما ضاقت تفرق الناس وكلما اتسعت الحرية اقترب الناس من بعضهم بعضا وتقلصت مساحة الاختلاف، والاختلاف لا يظهر إلا عندما تتقلص مساحات الحرية، ومنذ تقلصت مساحة الحرية بدأ الافتراق، وبدأ ظهور فرق الخوارج الذين ظنوا أن ما توصلوا إليه من آراء وأفهام هي الدين ومن خالف ما توصلوا إليه عدوه مخالفا للدين فلم يتورعوا في تكفير كل من خالفهم؛ ولهذا افترقت الأمة .. موضحا أنه لا سبب لتفرقهم إلا ما قاله ابن حزم الأندلسي في «الفصل بين الملل والنحل» بأنهم يختلفون عند أدق مسائل الفتيا لأنه لا يوجد في صفوفهم لا تلاميذ ابن عباس ولا تلاميذ ابن مسعود ولا تلاميذ عمار ولا تلاميذ معاذ ابن جبل ولا ينتهي الخلاف إلا بامتشاق السيوف. وأوضح أن كتّاب المقالات والفرق قديما وللأسف الشديد وأنا أقول ذلك بوصفي أدرس مادة الفرق لسنوات مثل: مقالات الإسلامية للأشعري أو «الفرق بين الفرق» للبغدادي أو «الملل والنحل» للشهرستاني أو «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم أو «التبصير في الدين وبيان الفرقة الناجية من فرق الهالكين» لأبي المظفر الإسفراييني، أو غيرها من الكتب اتجهوا للقول إن الإباضية فرقة من فرق الخوارج وهذا حيف كبير .. موضحا أن المدرسة الإباضية مدرسة إسلامية معتبرة لها سمتها ولها منهجها ولها أدبياتها ولها مفاصلة مع بعض فرق الخوارج فكرا وتنظيما وسياسة ومنهجا فما ترويه كتب الإباضية وكتب التاريخ كذلك أن عددا من أقطاب الخوارج اجتمعوا لتقرير الخروج على أهل البصرة وكان عبدالله ابن إباض له رؤيته ومنهجه وكان الإباضية لا يعدون عبدالله بن إباض إمامهم في الجانب الفكري أو الجانب المرجعي وإنما يعتبرونه قائدا سياسيا حاور معارضيهم ومخالفيهم والمرجع الأساسي أو المرجع الفكري والسند الفكري لهم هو أبو الشعثاء الإمام جابر بن زيد وهو من سادات التابعين كما هو معلوم، وقد توفي في زمن الصحابة سنة 93 للهجرة وتتلمذ على كبار الصحابة منهم ابن عباس وغيره، ولهذا في رأيي وبالرجوع إلى المصادر الموثوقة اليوم وإلى أدبيات الفكر الإباضي يكون من الظلم ومن الحيف أن ننسب هذا الفكر إلى فكر الخوارج الذين مارسوا التكفير صباح مساء، ولم يتورعوا عن تكفير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يتورعوا عن تكفير المبشرين بالجنة.

ترشيد الاختلافات

وأشار إلى أن الفكر الخارجي الغالي الذي لا يتورع أصحابه عن تكفير أهل ملة الإسلام لا نجده في فكر الإباضية أبدا، وجل ما يوجد من خلاف في فكر الإباضية - وأنا أشرت إلى ذلك في أحد مؤلفاتي وهو كتاب «مباحث في الفرق الإسلامية .. الرؤى والمرجعيات» - إلى أن جل الخلافات في الحقيقة ليست في العقيدة وهي مسائل خلافية مردها قضايا سياسية مثل خلق القرآن ومرجعه خلاف سياسي قديم، أما الخلافات الفقهية فهي موجودة حتى بين المذاهب السنية الأربعة وأكثر من ذلك .. مؤكدا أن واقع الحرية اليوم يحتم علينا أن نستفيد من بعضنا البعض، وأن يكون ديدنا هو ترشيد الاختلافات الموجودة حتى نصل من ترشيد الاختلاف إلى واجب الائتلاف فينبغي أن يأتلف المسلمون بين بعضهم البعض ويسعهم ذلك فربهم واحد ونبيهم واحد وقرآنهم واحد ودينهم واحد، والوحدة خير من الخلاف .. موضحا أننا لسنا مختلفين في أصول الدين التي هي أركان الإيمان الستة ولا مختلفين في أركان الإسلام الخمسة وجل هذه الخلافات نجدها خلافات فروعية لا ترقى إلى أن الناس يبقى هذا حالهم ويبقى اليوم دورنا كيف نذيب هذه الخلافات الموجودة بين المسلمين.

وأضاف: للأسف البعض يتمسك بالحديث المروي عن افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة وهذا الحديث تكلم فيه ابن حزم وقال: هذا الحديث ضعيف والإمام الشوكاني قال إن زيادة «كلها هالكة ما عدا واحدة» أنها من دسيس الملاحدة، وقد بين عدد من أهل العلم ضعف هذا الحديث فابن مطير الحكمي وهو أحد كبار العلماء في اليمن في كتاب له بعنوان: «كشف الغمة في حديث افتراق الأمة» قال: هذا الحديث يصادر آيات صريحة في القرآن الكريم فكيف نأخذ به ونترك القرآن الكريم الذي يقول لنا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فأي خيرية لأمة تفترق أكثر من افتراق اليهود والنصارى .. وقال في كتابه كشف الغمة: وان أمة أكثرها في النار لشر أمة أفلا تعقلون .. مضيفا: أن الإمام الشوكاني قال: إن هذا الحديث إنما سيكون سببا في تنفير الناس من الإسلام؛ ولهذا يحتاج هذا الحديث أن يعاد فيه النظر. وأكد العشي أنه درس هذا الحديث إسنادا ودلالة واتضح له أن أقوى الطرق لهذا الحديث، وهو طريق المروي عن أبي هريرة، وهو الذي ليس فيه هذا الجزء القائل: كلها في النار إلا واحدة بل توقف عند: «وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة» فقط وحتى بهذا النص .. موضحا أن هذا الحديث مداره على رجل اسمه محمد بن عمرو بن علقم بن وقاص الليثي، وهذا الرجل قال فيه علماء الحديث كلاما كثيرا، فقد قال فيه ابن حجر: صدوق له أوهام، وقال فيه ابن حبان: يخطئ، وقال فيه يحيى ابن معين: ما زال الناس يتّقون حديثه، فنجد هذا الحديث فيه ضعفاء، ولا يصح أن نعتمد عليه، واليوم ممن لا علم له من البعض يتخذون من هذا الحديث مطية لاعتبار بقية أبناء الأمة ضالين مضلين، فلم يتورعوا عن تكفير الإباضية وعن تكفير الأشاعرة وتضليلهم وعن تكفير الماتريدية ولم يتورعوا عن تكفير علماء الأمة بمثل هذه الأحاديث التي تحتاج إلى ضبط وتحتاج إلى علماء ثقات تقف لتنظر في مثل هذه الأحاديث إسنادا ودلالة.

الدعوة إلى الحق

وأشار إلى أن أعظم عمل نقوم به اليوم أن نكون على خطى الأنبياء والرسل عليهم السلام في تعليم الناس وتوجيههم نحو الطريق السوي وتوحيد الأمة والسير بها نحو الخير، فمن يدل الناس على الخير هو على خطى الأنبياء، وأن نقرب الناس إلى رب الناس، فذلك جهد الأنبياء والرسل، وعلينا أن نجمع شعث هذه الأمة حتى نعود بالأمة إلى ما كانت عليه في بداياتها وصفائها حينما كانت الحرية المتاحة هي التي جمعت الأمة وحينما ضاقت مساحات الحرية تفرق الناس ولا زال هذا حالهم ومازال الناس من هذا المنهج الخاطئ يعملون معاول للأسف في هدم وحدة الأمة رغم أن الآيات الصريحة في التوحيد مبثوثة في كل القرآن .. مبينا أنه بعد آيات التوحيد أكثر قضية ركز عليها القرآن الكريم هي الوحدة كقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وهذا لا يعني أن الناس لا يختلفون، فالناس يختلفون في الفكر وفي الرأي ولكنهم موحدون في منهجهم، فالحق سبحانه وتعالى يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، وكأن ذلك مقصد من مقاصد الخلق ليختلفوا، ولكنه اختلاف تراحم؛ ولهذا قال: «إلا ما رحم ربك» فالاختلاف يجب أن يكون اختلاف تراحم لا اختلاف تنازع واختلاف تضاد، والصحابة الكرام اختلفوا في آراء كثيرة وقد أحصى العلماء الخلافات بين ابن مسعود وبين سيدنا عمر في مائة مسألة، ومع ذلك كانت المحبة بينهم مستمرة، إذن قد نختلف في الفكر لكن لا تختلف القلوب، ولتبقى القلوب موحدة مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)، قال الإمام النووي في تعليقه على هذا الحديث: علق شروط الجنة على الإيمان وعلق شرط كمال الإيمان على المحبة، وهذا الذي يجب أن يجمعنا نحن المسلمين.