أفكار وآراء

تحطيم الصندوق

29 نوفمبر 2017
29 نوفمبر 2017

مصباح قطب -

في كل ندوة أو محفل نقاش عام أو لقاء إعلامي، يطالب المتحدثون ومقدمو البرامج ومديرو المؤتمرات -بل والجمهور نفسه- بالتفكير خارج الصندوق، ويحار المرء كثيرًا في تفسير هذا الأمر الذي شاع بقوة في السنوات الأخيرة، فإذا كان الكل يتحدث عن أفكار من خارج الصندوق فمن هم الذين ليس لديهم إلا ما هو في الصندوق؟. وأين يوجدون؟ وأين هو الصندوق نفسه ومن صنعه ؟.

هذا الكلام المتواتر جعلني في وقت من الأوقات أتمنى أن نعرف أولا ماذا يوجد في الصندوق من أفكار وان نتأكد أننا فهمناها وطبقناها كلها أو بعضها على الأقل بطريقة صحيحة، لكي نبرر لأنفسنا الانتقال بعدها إلى أفكار من خارجه. كان يدفعني إلى ذلك التمني أيضا شيوع مرض غريب في مؤسساتنا هو فقدان الذاكرة المؤسسية، بحيث ترى في أوقات لا حصر لها مسؤولا يقول مثلا: «قررنا كذا لأول مرة»، وبالتفتيش البسيط في دفاتر تلك الجهة -أو صندوقها باللغة التي نتناولها اليوم- تجد أن فكرته سبق طرحها أو تطبيقها أكثر من مرة من قبل، والمدهش أن صحفًا كثيرةً تنشر تصريحًا «أول مرة» هذا بلا تدقيق، ثم تكتشف لاحقًا وربما بالصدفة أو من خلال مدون أو كاتب على وسائل التواصل الاجتماعي، العكس،  فتنشره بلا توضيح أيضا.

في مرات أخرى يقول المسؤول انه لن يقلد سابقيه وسينهج نهجًا جيدًا، وبعدها يطرح تصورات سبق وان تم تقديمها في الجهة منذ عقود وفي هذه الحالة يتضح لنا انه كان يعنى بسابقيه شخص واحد فقط قد تكون علاقته به غير طيبة ويريد مسح آثاره لكنه لا يعي تاريخ الجهة جيدًا بدليل قوله لهذا الكلام. كل تلك العيوب موجودة في الكيانات الرسمية العربية وحتى الخاصة وهي موجودة في بلاد غيرنا لكن بدرجة أقل كثيرًا، ثم أن وعي الرأي العام بالخارج اسرع في اكتشاف عدم الصدق في التصريحات العامة من هذا النوع.

الأسبوع الماضي كنا على موعد مع محاضرة.. مع طريقة جديدة في الكلام إلى حد بعيد، لا هي تدعي انها من خارج الصندوق، ولا هي من داخله، ولكنها اجتهاد مهم.. مهم لأنه قائم على خبرة دولية ومحلية واسعة ومعارف نظرية ومتابعات واهتمام جاد بما يجري في العالم على الأصعدة الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية بنحو خاص. حيث كان انطباعي الأول بعد المحاضرة /‏‏ الكلام أن من المفيد لعاملنا العربي أن يحطم الصندوق وان يغلى معنى داخله وخارجه وان يفكر فقط. فقط يفكر ؟ ولا يتوقف عن التفكير مراعيًا أن تكون سرعته بقدر سرعة التغييرات التي تجرى في عالم اليوم.

كان المتحدث هو الدكتور محمود محيي الدين -النائب الأول لرئيس البنك الدولي للتنمية المستدامة-. شغل من قبل منصب وزير الاستثمار في مصر، وهو استاذ للاقتصاد في جامعة القاهرة، حاصل على الدكتوراه من انجلترا، ومترجم لعدة كتب مهمة آخرها «تاريخ أوروبا»، وفضلا عن كل ذلك ينتمي إلى عائلة محيي الدين السياسية المعروفة . للدكتور محيي الدين أيضا آراء سياسية واضحة وهو يؤمن بها ويدافع عنها اما الجماهير مهما اشتد الجدل حولها، لكن عمله في البنك الدولي، حتم عليه ويحتم الالتزام بقواعد الوظيفة الجديدة ومنها انه ليس من حقه أن يتحدث عن بلد معين بل عن سياسات البنك ونشاطه مع هذا البلد أو مع مجموعة بلدان، واستراتيجية البنك بصفة عامة، وان يتحدث في المجال المنوط به فقط، وان يتحاشى الخوض في الجدل حول الاتجاهات السياسية في هذا البلد أو ذاك حتى لو كان بلده مصر، وهذا طبيعي ومفهوم في تلك المؤسسة الضخمة ويلتزم به الجميع.

لكن لأن محيي الدين يمتلك مهارات السياسي فقد حول محاضرته العامة في مصر - والتي نظمها كل من المركز المصري للدراسات الاقتصادية والغرفة الأمريكية للتجارة بالقاهرة -إلى حديث شائق ومثير وأيضا -وكعاداته- للجدل والقدح الذهني.

استعرض محيي الدين أهم المتغيرات العالمية التي تؤثر على التنمية الاقتصادية وتؤثر بالقطع على غيرها بيد أن مناط الحديث كان النمو الاقتصادي. توقف قليلا عند الثورة التكنولوجية الرابعة، داعيا الجميع إلى أن لا يركنوا إلى ما لديهم لأن من يظن انه حقق ما يريد أو وصل إلى أحدث ما هو قائم سيصدمه أن التغيرات في هذا المجال تكاد تكون لحظية بلا مبالغة. وأعاد تذكيرنا بأن العالم استغرق ثمانين سنة بعد اختراع الهاتف ليصل عدد المشتركين إلى مائة مليون أما في الوقت الراهن فان تسجيل هذا الرقم يحدث ربما في شهر أو أكثر قليلا. وتوقف أيضا عند وجوب العناية بتعليم الأبناء اللغة الصينية والكورية واليابانية فمركز الثقل الاقتصادي العالمي يتجه شرقا وكذلك أيضا التطور التكنولوجي، وعليه فان من يعنى بالثورة التكنولوجية لا بد أن ينظر شرقا بمثل ما ينظر غربا، وان يعنى أيضا بالثقافة الآسيوية حتى يستطيع أن يتعايش أفضل مع العالم الجديد. ودعانا محيي الدين إلى «اعتناق التقدم» كعقيدة للفرد وللمجتمع قائلا انه استلهم هذا الأمر من المفكر والفيلسوف المصري الراحل ذكي نجيب محمود الذي كان قد قال ان اكثر فكرة إنسانية شدته في العالم وأكثر فكرة قابله للاستمرار هي فكرة التقدم، ونوه نائب رئيس البند الدولي إلى أن تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي يحتاج إلى سياسات ومؤسسات وتمويل، وطوال الوقت يجب استحضار أهمية الترابط بين الثلاثة بغض النظر عن وزن كل عنصر في دولة من الدول، وقال: إن هناك ثلاثة مناهج تحكم التوجهات العالمية الآن وهي متقاربة وتؤدي إلى نفس الهدف تقريبًا، الأول هو برنامج الأمم المتحدة وبالتحديد «الاونكتاد» والثاني هو برنامج كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، والثالث هو برنامج منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية، ويستطيع كل بلد أن يختار ما يناسبها أو لا يختار منهم اذا كان لديه منهج افضل، فالمهم في النهاية ان تكون الرؤية واضحة، منوها في جملة عرضية إلى أن البنك الدولي لا يفرض أمرًا على احد وان الدولة التي تذهب إليه تذهب إليه «بمزاجها».

توقف محيي الدين طويلًا عند تجربة كوريا الجنوبية وقال إنه يتمنى على كل بلد ينشد تحقيق طفرات تنموية أن يدرس جيدًا تجربة ذاك البلد، وكيف تحول من الصناعات البسيطة (التي كان يتم استيراد مدخلاتها) كالملابس والمنسوجات، الى الصلب، فالسفن، فالتكنولوجيا العالية، حتى اصبح يتفوق على كبريات الشركات الأمريكية في بعض الصناعات داخل هذا المجال. الدرس الكوري يقول انه لا بد من رؤية وإدارة واستقرار سياسي وديمقراطي وكيانات قوية وبناء تراكمي وأشكال تمويل مناسبة ودرجة متابعة ومساءلة عالية مع رهان على التصدير والاستمرار وضخ إنفاق مرتفع على القوى البشرية عبر نظم متقدمة للتعليم والرعاية الصحية.

ومن العبارات اللافتة التي قالها محيي الدين: إن الأهم من عمل الخطوات الصحيحة هو تجنب الخطوات السيئة التي اجمع علماء الاقتصاد والتنمية في العالم بمختلف مشاربهم على أنها ضارة بالدول وتقدمها وأفرادها، وأولها هو الدعم بصفة خاصة دعم الطاقة، الذي لا يستنزف موارد وحسب من الخزانة العامة ويحصل عليه غير المستحقين، ولكن أيضا يخصم من القدرة على الإنفاق على التعليم والصحة. ثاني الأمور السيئة حل مشكلة البطالة عبر التعيين في الحكومة والثالث معالجة عجز الموازنة بتكميش الاستثمارات العامة، وهكذا. ومن الأفكار المثيرة للانتباه إلى أبعد حد قوله انه ثبت عن أساتذة اقتصاد كبار أن أفضل طريقة لموجهة زيادة السكان هي الاستثمار في تعليم الإناث وحسب قول أحد الاقتصاديين الكبار فان الدولة لو كان لديها دولار واحد يجب أن تنفقه في هذا الاتجاه.

فكرة أخرى لا أقول إنها جديدة ولكنها تغيب مع بساطتها عن أذهان الكثيرين إلا وهي أن الغلاء غير التضخم، وفي بلد كمصر مثلا فان البنك المركزي يستهدف مكافحة التضخم والنزول به من فوق 30% حاليا إلى نحو 13% في 2018 لكن التضخم سينخفض أو قد ينخفض لكن الأسعار ستبقى مرتفعة، وبالتالي لا بد من مجهود علي ساحات أخرى لخفض الأسعار حتى تقل وطأة الإصلاح علي الجماهير، وذلك لا يتحقق إلا بزيادة المعروض وتحسين الإنتاجية ومكافحة تشوهات الأسواق الداخلية وتعزيز المنافسة وهكذا.

اعتبر محيي الدين مشروع «الحزام والطريق» هو مشروع بنية أساسية في العالم الحديث وتشارك فيه نحو 60 دولة كما نعرف، وبالتالي يجب علي كل دولة أن تحدد وبدقة المزايا والتحديات التي يشكلها هذا الطريق لها ففي مصر مثلا إذا أقمت ميناء على البحر المتوسط بمواجهة أوروبا يجب أن تفكر في آخر فورا على البحر الأحمر قريبًا من آسيا، وإذا كان لديك أولويات في انشاء الطرق فاجعل الأولوية للطرق التي تربط البحر الأحمر بمدن ومراكز الصعيد.

في المحصلة كان محيي الدين يتحدث ومن خلفه شاشة تتحرك عليها المؤشرات والبيانات الداعمة لوجهات النظر التي يعرضها لكن أهم ما تركه بعد كل ذلك هو أهمية التفكير المتجدد طوال الوقت فيما هو قائم وفيما هو آت مع أخذ العبر مما مضى.

التفكير الدائم بغض النظر عما إذا كان داخل الصندوق أو خارج الصندوق .

[email protected]