أفكار وآراء

توظيف البحوث العلمية لخدمة التنمية المستدامة

28 نوفمبر 2017
28 نوفمبر 2017

فتحي مصطفى -

,, « بالعلم والمال يبني الناس ملكهم..لم يُبْنَ مجد على جهل وإقلال ».. بهذه الكلمات البسيطة حدد الشاعر الشهير أحمد شوقي - قبل قرن من الزمان على وجه التقريب - الثالوث المهم لبناء الأوطان متمثلا في الناس والعلم والمال، وهي بالفعل معادلة التقدم المنشود لأي مجتمع إذا ما أحسن التعامل معها وتوظيفها في خدمة التنمية الشاملة ,,

لن نذهب بعيدا في سرد الأسس النظرية لأهمية البحث العلمي ودوره في تنمية البلاد والمجتمعات على أسس سليمة، يكفينا أن نشير إلى عشرات الآيات القرآنية التي تحض على العلم والتعلم والتدبر والتبصر والأخذ بالأسباب العلمية، والشيء ذاته نجده في مئات الأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، كقول الخليفة عمر بن الخطاب «إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة» وقول الخليفة علي بن أبي طالب «إن يوما لا أكتسب فيه علما جديدا هو يوم ضائع من العمر»، وتراثنا زاخر بكثير من المبادرات والنظريات العلمية، وكذلك بأسماء عديد من العلماء في مختلف المجالات والذين قدموا للبشرية الكثير من الابتكارات والاكتشافات التي لا يزال معمولا بكثير منها حتى اليوم ولو تغيرت وتطورت أشكالها وأنماطها إلا أن أساسها العلمي لا يزال مستمرا، وما كان ذلك ليتم لولا وجود قناعة بأهمية العلم والبحث فيه على المستويين الفردي والجماعي، فالعلماء هم في الأساس مشروع فردي يجتهد بأفكاره وأبحاثه ومجهوده في فروع علمية معينة، بينما لم يتخلف الحكام منذ صدر الإسلام عن تهيئة البيئة المناسبة للحصول على أفضل ما لدى هؤلاء العلماء، بل وحفزهم لتوظيف علمهم في خدمة المجتمعات والأفراد، ثم نحن نمتلك بالفعل أسسا نظرية وعملية موروثة تدفعنا بالقطع إلى تقديم المزيد في هذا المجال بمبادرات فردية وأيضا جماعية. ولا شك في أن التطورات التي شهدتها السلطنة على مدى السنوات الماضية تعكس قناعة راسخة بأهمية وضرورة تبنيها لثقافة البحث العلمي الشامل وفقا للأسس المشار إليها في السطور السابقة حيث توحدت الإرادة السياسية وما صاحبها من قرارات بالمبادرات الخاصة والمؤسسية في تبني البحث العلمي كطريق للتقدم والتنمية البشرية والمجتمعية عموما،وكذلك للتنمية الاقتصادية في مختلف المجالات وريادة الأعمال، وهو ما انعكس في قرارات ومبادرات عديدة في هذا الشأن واتخاذ خطوات عملية تؤكد الارتباط الوثيق بين ثنائية التعليم والبحث العلمي ودورهما الأكيد في تنمية الدولة العمانية على أكثر من صعيد وفقا لخطط متوسطة وطويلة المدى، وقد اكد صاحب السمو السيد شهاب بن طارق آل سعيد ، مستشار جلالة السلطان، رئيس مجلس البحث العلمي على هذا المعنى باعتبار إنشاء مجلس البحث العلمي بالسلطنة في عام 2005 نقلة مهمة في تاريخ التنمية العمانية على مختلف الأصعدة العلمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، مؤكدا أن البحث العلمي في الوقت الحاضر يعد إحدى الركائز المهمة التي تعتمد عليها دول العالم جميعا للنهوض بمجتمعاتها والرقي بشعوبها، ففضلا عن دوره في تنمية القدرات البشرية فإنه يعد محورا أساسيا في حفز الهمم للإبداع والابتكار وفي بناء الصناعات وتطويرها، كما أنه يعد مساهما أساسيا في الدخول إلى عالم الاقتصاد المبني على المعرفة.. ولعل من المناسب في تناول هذه القضية المهمة التطرق إلى بعض الأمور المتعلقة بحتمية ربط مخرجات التعليم والبحث العلمي في السلطنة في النقاط التالية :

أولا : تهيئة البيئة العلمية المناسبة, ولهذه البيئة الأهمية القصوى في تفريخ العلماء والباحثين وحماية أفكارهم وابتكاراتهم ومنجزاتهم العلمية، بل وحمايتهم هم أنفسهم ومجتمعاتهم من أخطر ظاهرة تهدد منذ عقود بعيدة الكوادر العلمية والبحثية في أمتنا، وهي ظاهرة « هجرة العقول » التي تشهد بشكل عام نزوحا كبيرا للكفاءات المتميزة من دول الجنوب إلى دول الشمال، حيث البيئة العلمية المتكاملة التي تساعدهم على تحويل أفكارهم إلى حقائق ميدانية. ولسنا في حاجة إلى كثير من الاجتهاد للتأكيد على أن خسائر الدول النامية جراء تلك الظاهرة جسيمة جدا، بينما مكاسب الدول المتقدمة يصعب حصرها لأنها بالفعل ضخمة جدا، والحديث هنا ليس عن المكاسب المالية أو المادية فحسب، ولكن كذلك عن المكاسب العلمية والتنموية والمجتمعية، ولسنا في حاجة أيضا إلى التأكيد على أن أمتنا العربية عامرة بالعقول النابهة والكفاءات البحثية التي تتعرض لكثير من الصدأ في بلادها بينما تسطع وتشع في الدول الغربية، وما يصنع الفارق هنا لا علاقة له بالرغبة في الهجرة أو نقص الانتماء، وإنما البيئة العلمية بمفهومها الشامل، من نظم حاكمة للبحث العلمي ؛ مدخلاته ومخرجاته وبنيته التحتية ومؤسساته العلمية والتعليمية وتحرير الكفاءات وإطلاق حرية الابتكار والإبداع..والتجربة في أجواء علمية ترصد وتحلل وتصوب.

ثانيا : ربط مدخلات البحث العلمي وأهدافه بمجالات التنمية الشاملة والمستدامة، وإذا كان الشيء ذاته يقال عن العملية التعليمية برمتها فمن الأولى أن يسري هذا المنهج على البحث العلمي باعتباره أرقى وأرفع الأشكال العلمية، ووفقا لهذه القاعدة فإنه من المهم جدا انتشار ثقافة البحث العلمي في كافة وحدات الدراسات الأكاديمية على اختلاف مراحلها التعليمية، ولا غضاضة على الإطلاق من غرس روح البحث وحب التجريب والتأمل في المراحل الابتدائية بدلا من التعليم القائم على التلقين والحفظ فقط. أضف إلى ذلك التأكيد على أن العلم لا يدور في حلقة مفرغة وأن البحث ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو وسيلة للوصول إلى ما هو أفضل لجعل حياة البشر أكثر سهولة وأكثر تقدما، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال منجزات علمية تساعد على تحقيق معدلات مرتفعة من التنمية بتقنيات وأدوات وآليات حديثة، وهذه النقطة تحديدا تكرس فكرة خدمة الأبحاث العلمية للتنمية الشاملة والمستدامة. ولذلك يجب ألا تظل هذه الأبحاث حبيسة جدران المعاهد العلمية والأكاديمية فحسب ولكن من الضروري جدا أن تكون هناك وحدات بحثية رفيعة المستوى في مختلف الوحدات الإنتاجية - العامة والخاصة - سواء كانت وحدات زراعية أو صناعية أو بترولية أو غذائية أو حتى بيئية وسياحية، فجميع الشركات والمصانع والوحدات الإنتاجية عموما يجب أن يكون لها كياناتها البحثية الخاصة بها لتطوير تقنياتها وآليات عملها ورفع مستوى إنتاجها وتجويد خدماتها بوسائل علمية حديثة، وليس هناك ما يحول بالقطع دون التعاون الوثيق والفعال بين تلك الوحدات البحثية ومراكز البحث العلمي الأخرى المنتشرة في ربوع الدولة.

ثالثا : الانفتاح على الفعاليات العلمية الدولية. وليس خافيا أن السنوات القليلة الماضية شهدت العديد من المبادرات والأنشطة والفعاليات والمسابقات واقامة المؤسسات العلمية داخل السلطنة بما يؤكد أن البحث العلمي أصبح حقيقة راسخة ومنهج عمل واضحا وكذلك خيارا استراتيجيا تراهن عليه الدولة بكافة مؤسساتها على صنع المستقبل. واستنادا إلى تلك الحقائق لا مبالغة في التأكيد على أن السلطنة باتت تمتلك في الوقت الراهن بنية تحتية متكاملة من ميزانيات مالية ومنشآت علمية ومجموعات شبابية متحمسة ومتحفزة ومؤهلة على مستويات رفيعة تساعد على البحث العلمي الناجح في مختلف المجالات بما يؤدي إلى بروز أجيال من العلماء بمفاهيم ومستويات علمية راقية. وإذا كانت السلطنة قد فازت بشرف تنظيم الملتقى العلمي الآسيوي الرابع والذي استضافته مسقط في ديسمبر الماضي، وهو تظاهرة علمية ضخمة أجتمع خلالها الشباب والطلبة من أنحاء العالم لتبادل الخبرات واكتساب المعارف والمهارات عبر مجموعة من المؤتمرات والحلقات النقاشية وحلقات العمل التخصصية المعنية بصقل مهاراتهم الابتكارية والابداعية بالإضافة إلى تزويدهم بآخر المستجدات العلمية، فلا شك في أن من بين عوامل عديدة يمكن أن تساعد على تحقيق هذه الوثبات الكبيرة الانفتاح على المراكز والأكاديميات العلمية والبحثية الحديثة في الدول الغربية والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، وزيادة المبتعثين إلى الخارج لدراسة التخصصات العلمية النادرة من الشباب المؤهلين لذلك وبما يؤمن عودتهم للوطن مجددا لنقل خبراتهم العلمية والتعليمية إلى أكبر عدد ممكن من أقرانهم بما يعظم القيمة المضافة لهذه البعثات العلمية إلى أقصى درجة ممكنة، وبما يساهم كذلك في رفع معدلات التنمية الشاملة والمستدامة في مختلف المجالات مثلما سبقت الإشارة.