المنوعات

الأنموذج الأكمل والخلاص الوحيد للبدون في رواية «المسطر»

27 نوفمبر 2017
27 نوفمبر 2017

لـيلى عبـدالله -

«حين كنا نستقل سيارة الخال أحيانًا أو والدي بلباسهما العسكري هما المثالان الممكنان الذين رأينا أن قدرنا الممكن والوحيد هو في اقتفاء آثارهما.

زحامنا مع المئات أمام معسكر «الجيوان» للالتحاق متطوعين في العسكرية وكأنها نهاية الشوط الذي ركضنا فيه مع الزمن.هكذا مضت تمامًا دورة حياة «عبدالكريم» أو «كريم» إحدى شخصيات الكاتب الروائي «ناصر الظفيري» في روايته «المسطر»، حيث صار «كريم» على يقين أنه قدره كإنسان «بدون» لا يحمل أوراقًا ثبوتية هو أن يقتفي آثار والده وكل رجل من «البدون» في الكويت.

في روايته «المسطر» لا تزال قضية «البدون» هي هاجس الروائي «ناصر الظفيري» ولكنه هنا على نقيض باقي رواياته السابقات يضع خلاصًا واحدًا، خلاصًا نهائيًّا أمام «البدون»، وهذا الخلاص هو الهجرة أو النفي أو وطنًا بديلاً مهما بدت أو قسّت التسمية!

لقد خاضت شخصيات الظفيري صراعات حادة مع أنفسهم والسلطة، مع لقب «البدون» مع إشكاليات هوية ملتبسة، مع مطاردة أحلام لم تنجم عنها سوى خيبات أمل هائلة رصّت رضوضًا في الروح والذاكرة، وكأن كل شخصية في رواياته السابقة كانوا مرحلة وخيارات أيضا أمام بطل روايته الجديدة «المسطر»، الذي منحه اسم «رومي راضي» وهنا البطل لم يغيّر اسمه كما باقي شخصياته في روايات سابقة، بل أضاف لاسمه لقبًا منحه كل ما لم يحصل عليه في البلد الذي ولد فيه.

لقد حصل بطل «المسطر» على كل شيء، حصل على المنفى الذي احتضنه بحب ورعاية شاملة، حصل على والدين، على حياة مرفهة، على منزل فخم، على وظيفة مرموقة، لقد اختار «رومي» قدره بعيدًا عن اقتفاء آثار خاله «ضيدان» الذي شكّل في الرواية الوجه النهائي لقدر «البدون» في الكويت حيث الهلاك كشيء مجهول الهوية وكأنه لم يكن يوما رغم كل التضحيات والتفاني الذي قدمه للدفاع عن الوطن منذ التحاقه في معسكر الجيوان حتى لحظة انكفائه على ذاته في قوقعة عزلته المديدة حين سُرح من الخدمة! لقد وضع الظفيري بطل روايته «رومي» تحت الاختبار.

بدت شخصياته مشطورة من حيث اختيار قدرها، فــ«كريم» هو الوجه الآخر المضاد لوجه «رومي» كلاهما كانا صديقين، ترعرعا في بساطة عشش الجهراء، تخرجا معًا من الثانوية العامة ولكنها وجدا أنفسهما أمام خيار واحد أيضًا «معسكر الجيران» يتلبسون أدوار السابقين تمامًا وكأن الحياة قالب كبير متوحد! لكن «رومي» على عكس «كريم» عزم الهجرة وحصل عليه وتغيرت حياته كليًّا عن حياة «كريم» الذي بقي يعاني العدم من كل شيء!

يمكن القول بــأن «رومي راضي جيبسون» هو المرحلة الأكمل للإنسان «البدون» في الكويت، فـــ«علي شومان» في رواية «الصهد» و«فهد العوّاد» في رواية «كاليسكا» اختارا النفي بعد صراعات حادة مع ذواتهم ومع غيرهم، غادرا ولم تغادر الكويت قلوبهم، ثم جاء في «المسطر» ليؤكد أن شخصية «الخال ضيدان» الامتداد النمطي لكل من «علي شومان» وفهد العوّاد «هو مرحلة ماثلة أيضا أمام كل من «كريم» و«رومي» وغيره من شباب «البدون»، الأول كان خياره البقاء و الثاني كان خياره الرحيل، والفارق هنا النموذج الأكمل في «رومي» أنه لم يحن إلى الكويت بل غادرها غضًا وبلا تجارب وبلا ذكريات تشرخ ذاكرته و جعلته متقلبًا، غادرها دون أن يلتفت للوراء ولو للحظة، ربما لأنه لم يتورط بالحب، بامرأة كما وقع مع «علي شومان» و«فهد العوّاد». كأن الحب وكأن المرأة هما الورطة الأكبر والألذ حيث ينساق القدر إلى نهايات غير محمودة البتة لمن هو «بدون». كأن لا حق لهم في الحب كما لا حق لهم في وطن شرعي؛ فحتى هذا الخيار لم يكن متاحًا في حالة بطل «المسطر» كأنه بدد كل ما يربطه بأرض الكويت، فهجرها بكل ما فيها، بأمه وخاله و بيته!

جاءت رواية المسطر مكثّفة بتركيب سردي مبتكر في ثلاثة فصول، كتبها الظفيري بتركيز وبكثافة واضحة مطوعًا السرد لحكاية روايته بلا تفاصيل خارجة عن القضية الأساس و كل شخصية عبرت عن نفسها بأريحية، فكريم كان هو «الناشر» الفصل الأول للرواية، بينما كان «رومي» هو الراوي الفصل الثاني من الرواية، وأخيرًا الخال عضيدان حمل على عاتقه الفصل الأخير من الرواية حيث كان هو «الرواية» التي كتبها ابن أخته «رومي رامي» أي الحكاية بأكملها، وقد حمّل كل شخصية من الشخصيات الثلاث زمنًا كأنه يسرد من خلالها ليس قضية «البدون» فحسب بل قدرهم على تعاقب الأزمنة، حيث كان «كريم» هو وجه الحاضر للإنسان البدون في الكويت، وكان «رومي» هو المستقبل الذي تمرد على حاضر كان سيكون ضحيته لو أنه انساق كما «كريم»، و الماضي الذي مثله «الخال عضيدان». أما المكان في الرواية فلا تزال «الجهراء» هي المكان الأزلي في كل روايات الظفيري، المكان الذي تكشط الشخصية عن ذاتها بعد تخبط مرير مع أقدارها، لكن المنفى لم يكن «كندا» بل بدأ بفرنسا و انتهى بأمريكا، عندما غادر «رومي» الكويت إلى «فرنسا»، كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي حيث زمن الرواية، في ذلك الزمن كانت فرنسا لا تزال تستقبل المختلفين وترحب بهم عدا المهاجرين الشرعيين، لكن فرنسا اليوم لم تعد هي المنفى المتاح، فهي تأنف اليوم عن استقبال المسلمين ناهيك عن المهاجرين غير الشرعيين الذين أصبحوا «بدونا» لا يملكون أوراقًا ثبوتية كأي « بدون» كويتي، ولعل حال الإنسان «البدون» في الكويت تكاد تتماثل مع حال «البدون» في فرنسا، و قد عرض الروائي الفرنسي « يانيك هاينيل» في رواية «الثعالب الشاحبة» ما يكابده الإنسان «البدون» في فرنسا على يد السلطات، والرواية بحد ذاتها كتبت من أجل الضحيتين الذين قتلا على يد الشرطة الفرنسية لتقوم بعدها ثورة الثعالب الشاحبة التي يقودها فرنسيون ثوار والمهاجرين غير الشرعيين تنديدًا بسياسات السلطات الفرنسية التعسفيّة بحق الإنسانية!. وهنا في رواية «المسطر» لا يضع القارئ أمام سؤال الهوية بل أمام الخلاص الوحيد حيث لا خيار للبدون في الكويت سوى في الرحيل والهروب والنفي بل كشط هويته من جذور ميتة لا حياة فيها ولا امتداد بل أضحت تاريخًا من العذاب.