abdallah-75x75
abdallah-75x75
أعمدة

هوامش.. ومتون: «مصـر» التي فـي عيـوننا

25 نوفمبر 2017
25 نوفمبر 2017

عبدالرزّاق الربيعي -

[email protected] -

أخيرا، وبعد شوق، وترقّب، أتيحت لي فرصة لزيارة مصر، بدعوة من هيئة الحوار الثقافي الدائم للمشاركة في مهرجان الشعر الثامن، الذي أقيم تحت شعار «مصر في عيون العرب»، ورغم أن الزيارة جاءت متأخرة، بسبب ظروف خاصة، لا مجال لشرحها، حالت دون الاسترخاء بأحضان «أمّ الدنيا» قبل هذا الوقت، والملفت للانتباه، أنّني خلال تجوالي في شوارع (قاهرة المعزّ) غمرني إحساس بأنّ تلك الزيارة لم تكن الأولى، فالأماكن التي مررت بها، تهيّأ لي أنّني سبق أن تمشّيت بها، بل عشت تفاصيلها!!

ومن المرجّح أن يكون سبب هذا الإحساس الذي غمرني، وأنا أتجوّل في شوارعها، أنّ ذاكرتي مليئة بصور عديدة جرى تخزينها منذ سنين طويلة خلت، عندما كنّا، في مقتبل أعمارنا، مهووسين بالأفلام المصرية التي اعتدنا مشاهدتها في دار العرض الوحيدة في مدينتنا الشعبيّة (سينما الرافدين)، إلى جانب ما كنّا نشاهده على الشاشة الصغيرة من  سهرات، وأفلام تعرض بالأبيض والأسود، ومسلسلات كنّا نحرص على مشاهدتها، وتعلّمنا منها اللهجة المصريّة، إضافة إلى ما قرأناه، على وجه الخصوص، في روايات (نجيب محفوظ)،التي قدّمت صورة واقعيّة للحارة المصريّة، ومقاطع من حياة الناس اليوميّة، لذا يمكن أن نطلق على زيارتنا هذه، إنها كانت (تفّقديّة) أكثر من كونها محاولة للتعرّف على مكان تطأ أقدامنا ترابه للمرّة الأولى، لكنّ تلك الأفلام، والمسلسلات، والكتابات، مهما أبدع صانعوها في الوصف، والتصوير، لم تصل إلى عمق إحساسنا عندما استنشقنا هواء مصر، ونحن نقف على ضفاف النيل، ومتعة التنزه فوق مركب في (النهر الخالد)، على حدّ وصْفة الشاعر محمود حسن إسماعيل التي غنّاها عبدالوهّاب، مخاطبا مياهه العذبة :

«يا نيل يا ساحر الغيوب

يا واهب الخلدِ للزمانِ»

والتي ختمها بحسرة، وهو يحدّق باحثا عن أسراره التي خبّأها الموج: «آهٍ على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ

يا نيل يا ساحر الغيوبِ»

فكنت ذلك الطير «المسافر» المحلّق الذي «زاده الخيال»، والسحر، والجمال،

أمّا شوارعها العامرة بالحياة، فتلك قصّة أخرى ذكّرتني بتدفّق شريان الحياة في شوارع بغداد، وبيروت، وعواصم عديدة زرتها، وجسست نبض حركتها المتواصلة على مدار ساعات اليوم ليلا، ونهارا، وكان الصمت يخيّم على محطّة سكّة حديد مصر التي صوّر فيها المخرج يوسف شاهين فيلمه (باب الحديد)، فيما رفرفت أرواح شاهين، وهند رستم، وفريد شوقي، وحسن بارودي فوق القضبان المتآكلة بفعل صولات «كرّ الجديدين»، ولكي أعيش اللحظة كما هي، وضعت ذاكرتي جانبا، فاستمتعت بالتجوال في شوارع القاهرة التي استلهم المعماريون في تصميمهم لها مما نهلوه من التراث المعماري الإسلامي، الممزوج بمعطيات العمارة الأوروبية المعاصرة، وبلغت المتعة ذروتها في شارع (طلعت حرب)، في (القاهرة الخديويّة)، التي بناها الخديوي إسماعيل على نمط العمارة الأوروبيّة، فكانت أقرب ما تكون إلى العمارة الباريسيّة، فبدت لي، ولصديقيّ الشاعرين اليمنيين: علوان الجيلاني، وأحمد عبّاس، أجمل بكثير، مما كنّا نشاهده في الأفلام، وظهرت الصورة أكثر إبهارا لسببين: الأوّل أنّ معظم الأفلام القديمة التي صوّرت بتلك الأماكن الشهيرة عكست صورتها التي كانت عليها في عقود خلت، فبقيت راسخة  في الذاكرة الحيّة عند تلك السنوات، أما أفلام الموجة الجديدة، فقد ركّزت على العشوائيات، والأماكن المكتظّة، أو الفنادق الفخمة، والحياة الأرستقراطية. والسينما في النهاية، صناعة، تراعي جماليّات الصورة، وعناصر الجذب البصري، فلم تنقل شكل الحياة، كما هو لمن يراه من بعيد.

بينما الصورة كانت أقرب في خان الخليلي، والأماكن المحيطة بـمسجد « الإمام الحسين» الذي يعود بناؤه إلى عهد الخلافة الفاطميّة سنة 1154م، بمنطقة الأزهر، حيث تطل واجهة جامعة الأزهر، وكان لابدّ لنا من الجلوس في «مقهى الفيشاوي» الواقع في زقاق ضيّق متاخم للمسجد، فخامرنا إحساس أن (نجيب محفوظ)، ربما يكون قد جلس على الطاولة نفسها التي نجلس عليها، وربما روادها من المشاهير: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش!

ولم نطل الجلوس كثيرا، ووسط الزحام شققنا طريقنا بصعوبة، وركبنا سيارة أجرة لنصل جامع «السيدة زينب»، ولنتذكّر أغنية محمد عبد المطلب:

«ساكن فى حي السيدة..

وحبيبي ساكن في الحسين

وعلشان أنول كل الرضا..

يوماتي أروحلو مرتين

وأنا قلبي متحير ما بين..

السيدة وسيدنا الحسين»

ولم تطل حيرتنا كثيرا، في القاهرة التي يطلق عليها سكّان الصعيد، والدلتا اسم «مصر» إلى اليوم، وكانت تلك التسمية سائدة حتى القرن التاسع عشر، ففيها الكثير من الأماكن التي تدعونا للتجوال في مصر التي تظلّ مشعّة في عيوننا.