أفكار وآراء

واقع الشرق الأوسط .. بين كرة الطاولة والشطرنج !

25 نوفمبر 2017
25 نوفمبر 2017

د.عبد العاطي محمد -

مع تنوع الأزمات التي باتت تعصف باستقرار ورفاهية الشرق الأوسط ،لم تعد قواعد اللعبة السياسية تخضع لاستراتيجيات محددة يمكن البناء عليها لاستشراف المستقبل .فتحت تأثير التنوع والتعقيد في هذه الأزمات باتت سياسات الأطراف النافذة تعبيرا عن مجرد ردود أفعال تجاه بعضها البعض، وليست أفعالا مستقلة بذاتها ،مما يجعل مستقبل المنطقة أكثر غموضا .

وإذا استعرنا شيئا من عالم الرياضات المختلفة خصوصا تلك التي تعطي أولوية للذكاء والفطنة الشديدة،فإن المتابع لما يجري من أحداث ساخنة في الشرق الأوسط وكيفية التعامل معها يلحظ أنها تجري كمباريات بين لاعبي كرة الطاولة (أو المضرب) وليس كمباريات لاعبي الشطرنج (رياضة عقلية ).في الأولى يجري التنافس كردود أفعال ليس إلا ، بينما في الثانية هناك تفكير عميق في كل خطوة وفقا لخطة في ذهن كل منافس ، ولا ينفي ذلك أن سرعة رد الفعل مثلما هو الحال في اللعبة الأولى، هي في ذاتها علامة علي التفوق والنجاح .

الاستعارة هنا لتقريب المعنى بالدرجة الأولى وليس من منطلق المقارنة بين أهمية هذه أو تلك. والغرض أن التنافس الحميد على المصالح والنفوذ وتوجيه مسار الأحداث في منطقة غارقة في الأزمات مثل منطقة الشرق الأوسط لا يجب أن يكون محكوما فقط بسياسات رد الفعل، وإنما برؤى قائمة على حسابات دقيقة لا تحقق أهدافا آنية فقط وإنما تتعلق ببناء المستقبل .ومن الصحيح أن حدة وقع الأزمات وتسارع إيقاعها وتشابك عناصرها يحاصر مواقف الأطراف في دائرة رد الفعل،ولكن لا يجب أن يكون ذلك هو التوجه العام أو القاعدة التي يعمل بها كل طرف كما هو قائم الآن،بل الصحيح أن يتنافس الجميع عملا بقواعد لعبة الشطرنج ، حيث التدبر والتفكير العميق في خيارات واحتمالات عدة، والمبادرة لمفاجأة الخصم .شيء من هذا لا يحدث وإنما ما يجري هو التخبط والتسرع في اتخاذ المواقف دون حساب للتداعيات أو المآلات.

حتى نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق، كان من الممكن التعرف على قسمات واضحة للعلاقات الدولية ولقواعد التنافس وللأهداف الاستراتيجية للأطراف الفاعلة . ولكن السيولة التي يمر بها النظام الدولي في ظل العمل علي التحول من القطبية الثنائية إلى تعدد الأقطاب، جعلت من الصعب التوقف عند ملامح محددة للقواعد التي تحكم العلاقات الدولية . وجاءت العولمة والثورة في عالم المعلومات والاتصالات التي جعلت العالم مجرد قرية كونية لتجعلا ما كان يعد غير ممكن ممكنا ، ولتصبح المفاجأة والإرباك هي سلاح التفوق في سباق التنافس الدولي . ومن المنطقي في ظل هذا التطور أن تصبح سياسات الأطراف الفاعلة مجرد ردود أفعال وليست أفعالا استباقية قائمة على الحسابات الدقيقة في تقدير الموقف هنا أو هناك .ولكن المشكلة هي أن الاستسلام لمنطق التعامل مع الأحداث برد الفعل أضحت له تكلفة قاسية على الدول والشعوب معا ، ومنطقة الشرق الأوسط تكاد تكون الأكثر تعرضا لهذه التكلفة القاسية مقارنة بغيرها من بقية العالم .

التكلفة القاسية من وراء الاستسلام للتعامل برد الفعل لها شكل المنحنى التصاعدي أي من أدنى إلى أعلى لقد أصبح الاعتذار والتعبير عن الأسف من ظواهر المواقف الدولية المعاصرة، وهو ما لم يكن موجودا من قبل، وتداعياته السلبية تكمن في الافتقاد إلى المصداقية، وهكذا لم يعد الرأي العام يصدق موقف ما حتى لو كان حقيقيا وجيدا بالفعل . ولو أن هذا يقع من جانب دول صغيرة أو هامشية أو من قيادات سياسية ليست ذات شأن لهان الأمر ، ولكنه يحدث على مستوى دول كبرى وقياداتها. ثم تتصاعد التكلفة القاسية لتشيع جوا عاما من الارتباك والقلق بالنسبة لما سيكون عليه المستقبل، وهنا يتراجع زخم التشبث بالأمل ويحل محله الإحباط والخوف وكلاهما لا يبني أمة بالطبع بل يجتثها من جذورها .وتمتد التكلفة إلي واقع الدول والشعوب الذي يتحول إلى واقع بائس معالمه الحروب والخراب والدمار والتفتت .

التعامل برد الفعل وجد جاذبية في الوقت المعاصر في ظل ما أتاحته تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والفضاء الإلكتروني من إمكانيات للرد السريع القاسي من الخصوم تجاه بعضهم البعض. هناك اليوم ما يسمى بالحروب الإلكترونية أو السيبرانية وفيها يتم تدمير منشآت ومصالح حيوية دون اللجوء إلي الحروب العسكرية المعروفة وذلك عبر ما يسمى بالهجمات الإلكترونية . يحدث هذا في عالم الاقتصاد مثلما يحدث في عالم الأمن والاستخبارات . وهذه الحروب هي الآن من أقوى الدلائل على استحسان العمل بمنطق رد الفعل، فالمتنافسون جاهزون للانقضاض على بعضهم البعض مع أول إشارة الى المساس بمصالحهم وأمنهم . وبالطبع تتصاعد تكلفة الخسائر مما تشهد عليه التقارير الدولية في عالم الاقتصاد، وما يتم رصده كل يوم تقريبا من انتهاكات للسيادة الوطنية وما يجري تسريبه من معلومات فيما يدخل ضمن الاغتيال السياسي للشخصيات العامة .ولا يقف الحال عند هذا الحد، بل هناك حروب عبر الكلمة والصورة من خلال الإعلام التقليدي المرئي والمقروء والإعلام البديل من خلال المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي . كل هذه الآليات تجعل سرعة رد الفعل ممكنة ومؤثرة بالطبع . ولكن المشكلة كما سبقت الإشارة هي أن التكلفة أصبحت باهظة حقا من واقع ما هو قائم من صور للخراب والدمار هنا أو هناك .

الجانب العربي من الشرق الأوسط هو الذي يدفع ثمنا أكبر من التكلفة مقارنة بغيره لسببين رئيسيين أولهما أنه يمثل المنطقة الأكثر تعرضا للتنافس الدولي التي تشهد صراعات مزمنة منذ زمن طويل لأسباب باتت معروفة ولا تحتاج إلي إعادة تذكرة بها . وثانيهما أنه لا يملك الوسائل والقدرات مثل غيره التي تمكنه من خوض معارك التنافس بمنطق رد الفعل ويضمن النجاح فيها. هو طرف هش في كل الأحوال ولا يدعي أنه يملك رفاهية مناطحة الكبار ، فقط يستطيع الصمود ولكنه لا يقدر على خوض المواجهة . أطراف إقليمية أخرى باتت بارعة في سرعة رد الفعل وليس في الفعل المبادر والمستقل فقط ، وإسرائيل خير نموذج علي ذلك فهي بارعة في الشقين سواء بفعل ما تمتلكه من آليات أو لما تحظى به من رعاية من الغرب .

وبحسابات التكلفة والخسارة، فإن الجانب العربي هو الأكثر احتياجا للخروج من دائرة رد الفعل حتى لو كانت سمة لمواقف الكبار ممن يتحكمون في مصير العالم إلى دائرة الفعل . هو الطرف الذي يدفع ثمنا باهظا للسير في هذه الدائرة ، وبناء عليه فإن الحكمة والمصلحة الوطنية ثم القومية تحتم العودة عن هذا الطريق والسير في الدائرة الأخرى أي دائرة الفعل . ولا يتحقق ذلك إلا باستعادة العمل العربي المشترك . ليس ذلك من باب الشعارات كما ترسخ في الأذهان، وإنما من باب الحرص على البقاء. الاندفاع في مزالق الأوضاع الراهنة لن يؤدي سوى إلى الفناء لأنه الجانب الذي لا يمتلك الآليات التي تضمن له النجاح مقارنة بغيره لو استمر على منطق العمل برد الفعل . هذا العمل المشترك لا يتحقق إلا بالتوافق والحوار، لا بالاستقواء والإقصاء، وعندها يمكن القول إن الجانب العربي انتقل في إدارة شؤونه السياسية وعلاقاته الدولية والإقليمية من اللجوء إلى استلهام اللعب بقواعد لعبة المضرب أو الطاولة، إلى العمل بقواعد لعبة الشطرنج .قد تبدو الدعوة شبه مستحيلة في نظر البعض استنادا إلى المشهد البائس عربيا الممتد منذ عدة سنوات ، ولكن ما يعزز ذلك أن التكلفة باتت باهظة حقا ولم يعد يسلم منها أحد .لم يعد هناك خيار دفاعا عن البقاء، سوى العودة للتوافق والعمل المشترك .