أفكار وآراء

من وعد بلفور إلى وعد جونسون

24 نوفمبر 2017
24 نوفمبر 2017

سمير عواد -

قبل 5 أيام على مرور الذكرى المئوية الأولى للإعلان البريطاني المشؤوم الذي يحمل اسم وزير الخارجية البريطاني الأسبق آرثر جيمس بلفور، جلس وزير الخارجية البريطاني الحالي، بوريس جونسون في مكتبه بالوزارة يطالع بالمقال الذي كتبه بهذه المناسبة حول بلفور ليتم نشره في إحدى الصحف البريطانية التي تصدر أيام الأحد، عندما توقف عند جملة تقول: كان بلفور صديقا لليهود ولكن إعلانه أدى إلى نشوء مأساة وتشريد وكان يعني الشعب الفلسطيني.

وإن دل هذا الموقف على شيء، فإنه يدل على مدى صعوبة الإرث الذي تركه بلفور بعد نشر إعلان وعده بمنح اليهود دولة على أرض فلسطين وذلك بتاريخ 2 نوفمبر 1917.

هذا العام لم يكن مرور هذه الذكرى مثلما كان يتم في الماضي. ويتذكر أحد الأكاديميين الفلسطينيين الذي ترعرع في مدرسة لليتامى الفلسطينيين في «سوق الغرب» في لبنان، كيف كان المربون يتعاملون مع هذا اليوم، لقد يقومون بجمع الطلبة ويتحدثون عن انعكاسات إعلان بلفور، ويبدأون بالنحيب. من هنا فإن الفلسطينيين لا ينسون وصفه بالوعد المشؤوم.

وحصل جدل في مختلف بلدان العالم خاصة في بريطانيا التي خرج منها الإعلان. فقد تم عقد ندوة في أكاديمية السياسة «تشاتام هاوس» وسط لندن وفي قاعة «ويستمينيستر»، حيث ناقش خبراء بريطانيون مع ضيوفهم من الشرق الأوسط، انعكاسات ونتائج هذا الإعلان الذي وجهه بلفور في تلك الفترة إلى اللورد روتشيلد ممثل الجالية اليهودية في بريطانيا، وتعهد له بوطن على أرض فلسطين، تمهيدا لقيام دولة إسرائيل.

اليوم وبعد أكثر من 100 عام على الإعلان المشؤوم، ما زال الأكثر إثارة للجدل وفي سابقة من نوعها قرر الفلسطينيون أخيرا، مقاضاة بريطانيا بسبب هذه الوثيقة ومطالبتها بتعويضات على غرار التعويضات التي دفعتها ألمانيا ولا تزال لليهود بسبب جرائم الزعيم النازي إدولف هتلر بحقهم. لكن المثير للاهتمام أن الإعلان المحفوظ في نسخته الأصلية في المكتبة البريطانية، كان أيضا مثارا للجدل في بريطانيا. فقد وصفت المؤرخة البريطانية إليزابيث مونرو في الستينات الإعلان بأنه كان من أفدح الأخطاء في تاريخ الإمبراطورية البريطانية.

لم يكن إعلان بلفور اقتراحا عفويا، بل نتيجة سنوات من التخطيط لإنشاء وطن لليهود. فبعد سنوات قليلة على عقد تيودور هرتزل أول مؤتمر صهيوني في مدينة «بازل» السويسرية في عام 1897، استدعاه بلفور إلى لندن وكان في حينه يشغل منصب رئيس الوزراء البريطاني، وعرض على هرتزل جزءا من الإمبراطورية البريطانية في شرق إفريقيا لتأسيس دولة لليهود، وبينما قبل هرتزل بهذا الاقتراح، فإنه فشل في الحصول على موافقة الصهاينة الذين كانوا حوله. وتفاوض حاييم وايتزمان الذي خلف هرتزل بعد وفاته مع لندن بالذات بعدما بدأت الإمبراطورية العثمانية بالانهيار وشعر الصهاينة أن حلمهم بالحصول على أرض الميعاد بدأ يقترب. وفي مايو 1916 وضعت بريطانيا وفرنسا معاهدة «سايكس بيكو» وبدأ تقسيم المنطقة ويُقال أن بلفور أبلغ وايتزمان في حينه «عندما تسكت الأسلحة ستحصلون على «قدسكم».

وكانت السياسة البريطانية في تلك الفترة منقسمة على نفسها حيال نهج بلفور. فبينما كان رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج وبعده ونشتون تشرشل أن لإعلان بلفور إيجابيات وسلبيات، حذر السياسي جورج كورزون والوزير الهندي اليهودي إدوين مونتاجو، من خطر نشوء نزاعات في المنطقة إذا قرر اليهود سلب العرب حقوقهم وقاموا بالهجرة إلى فلسطين وهو ما بدأ يحصل خاصة بعد اضطهاد هتلر يهود أوروبا في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. وكتب الصحفي الألماني يوخين بوخشتاينر في مجلة «فرانكفورتر ألجماينه فوخه» يشير إلى انعكاسات إعلان بلفور «لقد تجاهل الإعلان حقوق العرب بالكامل ولم يذكرهم بكلمة واحدة، ولم يشعر أنه كان عليه على الأقل التفكير بما قد يحصل لهم عندما يفقدون أراضيهم بين ليلة وضحاها.

وخوفا من انتشار الفوضى والصدامات بين عرب فلسطين واليهود الذين بدأوا يتوافدون من كل صوب وحدب على فلسطين، سمحت قوات الانتداب البريطانية بدخول أفواج صغيرة من اليهود إلى فلسطين حتى لا يتعرض الفلسطينيون للاستفزاز. لكن الصهاينة أرادوا الاستعجال في إعلان دولتهم، فشكلوا عصابات راحت تنشر الإرهاب وتمارس القتل المروع ضد سكان القرى الفلسطينية وارتكاب مجازر لدفع سكان المدن والقرى إلى الهجرة عن فلسطين. وفي سجلات القضاء البريطاني أسماء لبعض زعماء هذه العصابات حصلوا لاحقا على مناصب عليا في الدولة الإسرائيلية، منهم مناحيم بيجن مخطط ومنفذ الهجوم على فندق الملك داوود في القدس، مركز قيادة الحاكم العسكري البريطاني، وإسحاق شامير الذي خطط لاغتيال الكونت فولك برنادوت ممثل الأمم المتحدة في فلسطين .

وأدت الصدامات الدامية بين الميلشيات الإرهابية الصهيونية وقوات الانتداب البريطاني والعرب إلى اتخاذ لندن قرارا بسحب قواتها من فلسطين والغريب أنها طلبت المساعدة من الأمم المتحدة لوضع حل للنزاع الذي تسبب به البريطانيون أنفسهم، فأيدت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في عام 1947 خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وأعلن ديفيد بن جوريون بتاريخ 14 مايو عام 1948 قيام دولة إسرائيل وكان ذلك بدء صراع لم تحسمه الحروب التي وقعت ودون أن يتم التوصل إلى حل عادل يعيد للفلسطينيين أرضهم وحقوقهم المشروعة وكرامتهم. مع الذكرى المئوية للنكبة، اقترح وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي أن يقدم وزير الخارجية البريطاني جونسون، تعويضا رمزيا للشعب الفلسطيني، تعبيرا عن حسن النوايا، واقترح عليه أن يضع إعلانا يحمل اسم إعلان جونسون، يعبر فيه عن اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين، ولكن ذلك لم تتم الموافقة عليه.