أفكار وآراء

مئوية « بلفور».. وأربعينية « زيارة القدس»

21 نوفمبر 2017
21 نوفمبر 2017

عمـــاد عريـــان -

إذا كانت الذكرى المئوية الأولى لوعد بلفور المشؤوم قد حلت قبل أيام، وتحديدا في الثاني من نوفمبر الجاري، وسط حالة من الضجيج العربي عموما والفلسطيني خصوصا باعتباره اليوم الذي يعد تاريخ الميلاد الفعلي لأكبر مأساة إنسانية بدأت فصولها في عام 1917 لتظل تداعياتها وتأثيراتها الكارثية مستمرة حتى أيامنا تلك باغتصاب أرض فلسطين وتشريد شعبها،فيبقى ليوم التاسع عشر من نوفمبر أهميته الخاصة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، باعتباره اليوم الذي شهد قبل أربعين عاما بالتمام والكمال زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات «التاريخية» لإسرائيل،وهي الزيارة التي اصطلح في العواصم المؤيدة لها على تسميتها بمبادرة السلام وعنها نال السادات جائزة نوبل للسلام مناصفة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيجين الذي لم يتردد في تلقف هذه المبادرة واستغلالها أفضل استغلال،بينما اعتبرها معارضون خروجا على الصف العربي وسببا في تشتيت الجهود العربية الجماعية في المواجهة مع الكيان الصهيوني ، ولكن تبقى لهذه الزيارة أهميتها المفصلية باعتبارها واحدة من أهم وأخطر حلقات الصراع الشرق أوسطي.

وما بين مئوية بلفور واربعينية مبادرة السلام المصرية وزيارة السادات للقدس،تبقى الإشارة واجبة إلى خصوصية شهر نوفمبر بالنسبة للصراع المذكور وفي القلب منه القضية الفلسطينية،وسوف نكتشف أيضا تلك المعادلة الحسابية الغريبة المرتبطة بالرقم (7) ومتوالية الحدث كل ثلاثين عاما على وجه التقريب، ففي نوفمبر عام 1917 صدر وعد بلفور المشؤوم بمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين،وبعد ثلاثين عاما وبالتحديد في نوفمبر عام 1947 صدر قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم181 بتقسيم فلسطين إلى دولتين فظهرت على أثره الدولة اليهودية بينما لاتزال الدولة الفلسطينية في علم الغيب، وبعد ثلاثين سنة أخرى وبالتحديد في 17 نوفمبر عام 1977 جاءت مبادرة السلام،وبالتأكيد تلك المعادلة الرقمية هي محض مصادفة وليس هناك ما يؤكد أن ترتيبات قد وضعت لتسيير الأحداث في هذه التواريخ، ولكن ستظل لشهر نوفمبر خصوصيته بالنسبة للقضية لأن فيه أيضا رحل عن دنيانا الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات - أبو عمار- في ظروف غامضة، وكان ذلك في عام 2004.

وتأتي ذكرى رحيل عرفات ومبادرة السلام هذه الأيام في وقت تتعرض خلاله القضية الفلسطينية لمرحلة مفصلية حرجة نتيجة العدوان الإسرائيلي المتصاعد على القدس والمسجد الأقصى والأراضي المحتلة بشكل عام ومؤشرات تسوية غير واضحة المعالم، ليبقى السؤال مشروعا ؛ أي سلام ذلك الذي حملته مبادرة السادات وزيارته لإسرائيل في ضوء المشاهد المتتالية التي تقع أمام أعيننا منذ تاريخها وحتى هذا اليوم؟ الإجابة عن هذا السؤال أو بمعنى أدق التساؤل تفتح الباب مجددا أمام مناقشة جدوى مبادرة السلام وحصاد أربعين عاما تبعتها، ربما جاءت مقدمات الإجابة بعد أشهر معدودة من المبادرة واتفاق السادات وبيجين على إقامة السلام واعتبار حرب أكتوبر1973 آخر الحروب، ولكن يبدو أن كلا منهما كان يفكر في السلام على طريقته الخاصة، والكثير من إجابات هذا السؤال ربما جاءت بشكل فوري في توقعات صاغها الكاتب والمحلل السياسي الشهير محمد حسنين هيكل في مؤلفه «حديث المبادرة» ، إلا أن الحقائق والتطورات على أرض الواقع كانت تحمل مفاجآت كارثية يصعب تصور حدوثها بعد حديث السلام الساخن الذي انطلق مع المبادرة!

ففي بدايات عام 1978 أي بعد أشهر قليلة من المبادرة اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب اللبناني وألحقت به دمارا واسعا وبعدها بأشهر أعلن بيجين القدس عاصمة أبدية لإسرائيل وفي شهر يونيو عام1981 وبينما كان مجتمعا بالسادات في شرم الشيخ كانت الفانتوم الإسرائيلية تدك المفاعل النووي العراقي «اوزيراك» إلى حد تسويته بالأرض، وفي سبتمبر 1982 وقع العدوان الهمجي الإسرائيلي على كل الأراضي اللبنانية وصولا إلى احتلال بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية في رحلة شتات جديدة إلى اليمن وتونس، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد ولكن بلغت العربدة الإسرائيلية حد ضرب وتدمير مقار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في حمامات الشط بتونس العاصمة وأيضا اغتيال القيادات الوطنية الفلسطينية في عمليات إجرامية مثل خليل الوزير وغيره من القيادات التاريخية، وفي العام ذاته 1986 تواصلت الهمجية الإسرائيلية في مواجهة أطفال الحجارة الذين غيروا الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية،

وفي سنوات التسعينات أيضا لم تتوقف الاعتداءات الصهيونية وكان أبشع مشاهدها في عام1996 عندما ارتكبت مجزرة قانا في جنوب لبنان ضد مئات المدنيين الأبرياء، لتستمر الهمجية والعدوانية مع بدايات القرن الجديد وخاصة بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية بين عرفات وايهود باراك وكلينتون، والتي انطلقت بعدها همجية السفاح شارون باقتحامه المسجد الأقصى وشن حرب ضروس ضد الفلسطينيين اعتبارا من عام 2001 تم خلالها اغتيال القيادات الفلسطينية التاريخية من مختلف الفصائل وخاصة حركة حماس وارتكب خلال حربه مجزرة جنين التي راح ضحيتها 500 فلسطيني على الأقل، بل وحاصر عرفات في مقر المقاطعة برام الله حتى مرضه الأخير وخروجه في رحلة الموت عام 2004 لتواصل إسرائيل عدوانيتها على المحيط العربي بالحرب على لبنان عام 2006 وشن ثلاثة حروب مدمرة على غزة دمرت خلالها القطاع تماما أكثر مرة وقتلت الآلاف من أبنائه ، وبين حين وآخر لم تتردد في القيام بعمليات عدوانية في أي مكان تستطيع الوصول إليه فضربت ودمرت أهدافا داخل سوريا مرارا وتكرارا وداخل السودان وغير ذلك من الاعتداءات وجرائم الحرب الواضحة.

هذا السرد الطويل لبعض مشاهد العدوانية الإسرائيلية التي وقعت بعد مبادرة السادات عام1977 يؤكد أنها كانت تفكر في نوع من السلام يحقق لها السيادة ويضمن لها التفوق الدائم، فلا شك في أن نوايا السادات كانت طيبة وتهدف بالفعل لإقامة سلام شامل وعادل لكل دول المنطقة وأيضا يضمن لإسرائيل بقاءها، وجاءت كلماته ضمن خطابه التاريخي أمام الكنيست لتعكس الشيء الكثير من هذه الرغبة الصادقة في إقامة سلام شامل ودائم بالمنطقة، والأهم من ذلك أن السادات فتح بالفعل الباب على مصراعيه أمام إسرائيل لتصبح دولة طبيعية في المنطقة، وليس أدل على ذلك من أن خطوته تبعتها خطوات عربية مهمة في الاتجاه ذاته مثل اتفاقية السلام مع الأردن واتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين ومباحثات جنيف مع سوريا في وجود الأسد الأب وما سمي وقتها بوديعة رابين، وجاءت الخطوة الأهم بإعلان مبادرة السلام العربية في قمة بيروت برعاية العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، كل تلك الخطوات تؤكد أن الدول العربية قدمت ما يكفي لإقامة سلام حقيقي في المنطقة يعطي اسرائيل الحق في الحياة داخل حدود آمنة.

ولكن إسرائيل وحدها كانت لها حسابات مختلفة فلا نلوم السادات ولا الأطراف العربية التي سعت لسلام حقيقي فلا يجوز لوم الضحية وتبرئة الجاني أو نصرة الجلاد على حساب البريء فمن الواضح أن إسرائيل كانت ترغب في ترتيب أوضاع المنطقة برؤيتها الخاصة وبالتأكيد بالتعاون مع أطراف عالمية كبرى،فربما حرص بيجين على إخراج مصر من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي(عسكريا على الأقل) وفي مراحل لاحقة تدمير جيوش سوريا والعراق وهو ما تحقق ويتحقق بالفعل على أرض الواقع حيث تأكل المنطقة نفسها بنفسها وتمارس تدمير الذات والمستفيد بالقطع إسرائيل بمثل هذه الهدايا المجانية .

ولا نعلم تماما ماذا كان يدور في رأس بيجين وقادة إسرائيل يوم قبلوا مبادرة السلام المصرية، ترى هل كانت ماثلة أمامهم خريطة «إسرائيل من النيل إلى الفرات»، مصر النيل باتفاقية السلام وفرات العراق بالغزو الأمريكي وتدمير بلاد الرافدين؟ ربما كانت تلك أهدافا استراتيجية بعيدة المدى عملت إسرائيل على تحقيقها، ولكن منطق حركة التاريخ يرجح أنها قد تحقق مكاسب واضحة جراء هذه الممارسات العدوانية وقد تمارس تفوقها لعدد من السنين ولكن هذا لن يدوم إلى أبد الآبدين لأن عوامل القوى - بمفهومها الشامل متغيرة- وإذا كانت إسرائيل قد رفضت قولا وفعلا مبادرات السلام العربية المتتابعة فإنها بذلك أضاعت على نفسها فرصا تاريخية كي تصبح دولة حقيقية وطبيعية، بينما تؤكد الأحداث المتتالية أنها تأبى إلا أن تكون عصابة في المحيط الشرق أوسطي،وقد تجلى ذلك مرتين الأولى قبل مائة عام باغتصاب أرض فلسطين من خلال وعد بلفور، وقبل أربعين عاما بتدمير مبادرة السلام المصرية وإساءة استغلال زيارة السادات للقدس المحتلة.