أفكار وآراء

التزام المهنية الإعلامية .. ومواثيق الشرف

18 نوفمبر 2017
18 نوفمبر 2017

محمد حسن داود -

«لا شك في أن الإعلام الناجح يحتاج إلى مقومات وأسس عديدة تساعده على القيام بدوره بفاعلية واحترافية، وقد تكون الحرية هي الأساس الأول لنجاح العمل الإعلامي من خلال قدرة المجتمع على استيعاب وتفاعل جميع التيارات ومختلف الآراء ، إلا أنه بالطبع هناك عوامل أخرى عديدة لا تقل أهمية عن الحرية لتحقيق ذلك»

ومن حيث المبدأ لابد من التأكيد على أن الحرية المنشودة لضمان نجاح المنظومة الإعلامية في تأدية عملها ورسالتها هي تلك الحرية المسؤولة التي تحافظ على حقوق مختلف الأطراف بدون تجاوزات أو انفلات غير محمود، ولا شك في أن الإعلام العربي - في مجموعه - يتعرض منذ سنوات ليست قليلة لسلسلة من الانتقادات الحادة من جانب فئات ومؤسسات سياسية ومجتمعية عديدة جراء حالة انفلات غير مسبوقة جعلت الإعلام العربي يحيد عن أهدافه ورسالته، سواء في تدعيم العلاقات المجتمعية الداخلية للدول أو العلاقات البينية العربية، بل يمكن القول في ضوء المشاهدات والمتابعات اليومية لواقع الإعلام العربي إنه في كثير من الحالات كان سببا في تصعيد التوتر والخلافات على «الجبهتين» المشار إليهما آنفا، وذلك نتيجة عوامل وتطورات عديدة ربما تناولها الكثيرون من المختصين والباحثين بالدرس والتحليل، ولكن تظل وضعية الإعلام العربي بالفعل في حاجة إلى عشرات الدراسات الأكاديمية المتخصصة لاستخلاص ورصد أسباب هذه الوضعية، لتعظيم الإيجابيات -إن وجدت- والتخلص من السلبيات، وهي بالقطع كثيرة.

وإذا كان الهدف من التناول الحالي التركيز على دور ومسؤوليات الإعلام العربي حاليا ومستقبلا، فقد يكون من المناسب التحدث في هذا المقام عن بعض الظواهر والمطالب التي يجب تخليص الإعلام العربي منها أو الدعوة للتحلي والالتزام بها، بوصفها عوامل مهمة في تحسين وضعية الإعلام العربي والانتقال به إلى المستويات الأفضل، وربما من خلال هذا التناول التحليلي تتضح طبيعة الأدوار والمسؤوليات الملقاة على كاهل الإعلام العربي -مقروءة ومسموعة ومرئية- سواء أكان رسميا أو خاصا أو مستقلا، فالدعوة إلى تجنب السلبيات هي بالتأكيد دعوة مباشرة لتبني السلوك البديل الذي يتسم بالإيجابية.

ولعل من المهم في البداية الإشارة إلى هذا الغياب الواضح للباحثين والخبراء العرب شبه التام تقريبا عن تقديم أي أبحاث أو دراسات علمية متميزة في المجال الإعلامي في المنتديات العالمية والدولية الكبرى المعنية بهذا الأمر‏، ‏الأمر الذي يوضح دون مواربة أو مواراة أسباب خروج الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية العربية من قوائم الجامعات والمراكز العلمية الأشهر على الصعيد العالمي‏، ‏ويظهر هذا الغياب أيضا حقيقة أخرى وهي مدى بعد المسافة بين الدول العربية والعالم المتقدم في هذا المجال‏،‏ حيث أظهرت الدراسات والمناقشات في مؤتمرات كبرى أن هناك بالفعل عالمين في مجال الصحافة والإعلام بشكل عام وبينهما هوة كبيرة‏، والأرقام أيضا تظهر ذلك بوضوح‏، ‏حيث خرجت مناطق بأكملها على رأسها الشرق الأوسط والدول العربية من قائمة الدول والمناطق الأكثر استخداما للتكنولوجيا والمفاهيم الحديثة في عالم الصحافة والنشر‏، خاصة ما يتعلق بالنشر الإلكتروني والصحافة الرقمية واستخدام الإنترنت والوسائط الإعلامية الحديثة‏، ‏خاصة أجهزة الكمبيوتر والهاتف المحمول‏، بينما دخل عدد من دوله ضمن أسوأ بيئة للعمل الإعلامي!.

وربما تمارس الدول العربية شيئا من تلك التطورات خاصة في السنوات الأخيرة في محاولات قد تكون استثنائية للحاق بروح العصر‏، ولكن المنهج العلمي المتكامل الذي طرحت به المفاهيم الجديدة لعالم الإعلام في المجالين التقني والفكري يوضح من جديد أننا في دولنا العربية بحاجة إلى جهد جبار للحاق بهذا العالم المتقدم والمتطور‏ بعيدا عن العشوائية، فقد أصبحت هناك نظريات متكاملة للإعلام والصحافة الرقمية والنشر الإلكتروني، والتوجهات الجديدة فيما يسمى بـ«صحافة الناس‏»،‏ و«صحافة المدونات»‏، و«الصحافة المجانية‏»،‏ وما أحوج جامعاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا الصحفية والإعلامية علي وجه الخصوص لإدراج هذه التوجهات الجديدة ضمن برامجها العلمية‏،‏ وصولا إلى التطور الأمثل والوضع الأكثر اكتمالا أكاديميا وعمليا، لما له من تأثير كبير على إعداد وتخريج الكوادر الإعلامية المؤهلة لممارسة دورها على أعلى مستويات المهنية والمعرفة.‏ ‏

وفي الغالب هناك حاجة ماسة لمزيد من الدراسات لوضع حد لهذا الجدل العقيم بين الإعلام الإلكتروني والرقمي من ناحية، والإعلام الورقي من ناحية أخرى، للانتقال إلى طبيعة ومضمون الأدوار والمهام المنشودة بدلا من تبديد الجهود في جدلية قد لا تنتهي، فالذين يروجون لموت الصحافة الورقية في القريب العاجل أو على المدى البعيد مع تمدد الصحافة الإلكترونية والرقمية‏،‏ أكدت لهم مجمل الدراسات والأبحاث التي ألقيت خلال مؤتمرات دولية كبرى - وجميعها من دول أوروبية وأمريكية متقدمة - أن ذلك غير صحيح‏، وتأسيسا على أن أي وسيلة إعلام لم تنجح في إلغاء وسيلة أخري، فإن الإعلام الإلكتروني لن يؤدي إلى اختفاء الإعلام الورقي، ‏وأكبر دليل على ذلك أن الكتاب استمر إلى جوار الصحيفة،‏ والصحيفة استمرت مع السينما، والسينما بقيت مع الإذاعة والتليفزيون والفضائيات، والفضائيات مستمرة مع الكمبيوتر والمحمول والإنترنت‏ والوسائط الإعلامية المتعددة، ما يعني أن الإعلام الورقي مستمر حتى مع تطور الإعلام الإلكتروني‏، فقط المطلوب تحسين أدائه وتطوير دوره لملاحقة التغيرات الطارئة‏.‏

وقد تكون الإشارة ضرورية إلى أن اليابان هي أكبر الدول في مجال توزيع الصحف الورقية على الصعيد العالمي‏،‏ فمعدل الصحف الموزعة يوميا يبلغ ‏حوالي 700‏ نسخة على وجه التقريب لكل ألف مواطن، وهي معدلات مرتفعة جدا، وفي المراتب التالية تأتي بمعدلات مرتفعة أيضا النرويج وكولومبيا وفنلندا‏، والأرقام العربية قد تكون هزيلة إلى حد العدم إذا ما قورنت بغيرها العالمية،‏ ومن الإحصاءات أيضا هناك طفرة هائلة في الصحافة الإلكترونية والرقمية وعبر أجهزة الهاتف المحمول مصحوبة بزيادة كبيرة أيضا في حجم الإعلان‏، كل هذه الإحصاءات لم تتطرق من قريب أو بعيد للحقائق الرقمية في الشرق الأوسط والعالم العربي‏، ‏بمعني أننا لسنا علي الخريطة العالمية‏، أو أننا نعاني من وضعية سيئة للغاية تستوجب تحركا سريعا ومقاربات غير تقليدية تأخذ في اعتبارها العوامل التالية:

أولا: التزام المهنية، فهي حصن الأمان لمنظومة العمل الإعلامي وخير ضمان لممارسة دورها وتأدية رسالتها وفقا لقواعد واضحة وحاكمة تصون حقوق المواطنين وتحمي المجتمعات من الانفلات، وتؤمن كذلك للإعلاميين أرضية صلبة لممارسة عملهم بثقة واقتدار، فالبعد عن الشخصنة، وتجنب تسييس أو «أدلجة» الرسالة الإعلامية، تأتي على رأس القواعد المهنية المطلوب التزامها، علاوة على الحيادية في التعامل مع المعلومات والأخبار وعرضها بكل شفافية وأمانة دون تغيير أو تشويه أو «تلوين» وعدم خلطها بالآراء الشخصية التي لها ملعب عرضها وفقا لقواعد مهنية متفق عليها أيضا.

ثانيا: التشريعات ومواثيق الشرف، فالإعلام بطبيعته مهنة العمل السريع والضغوط المكثفة، وكثيرا ما يوصف العاملون في وسائله بـ«الباحثين عن المتاعب» لأنهم يبحثون عن الحقائق وسط ظروف كثيرا ما تكون شديدة التعقيد وفيما يشبه السباق مع الزمن، ومن ثم فلابد من صياغة التشريعات والقوانين المناسبة لهذه المنظومة المهمة بحيث تمارس دورها وفقا لأسس قانونية وتشريعية واضحة تحدد لكل طرف حقوقه ومهامه وتفصل بينهم بالقانون عند الضرورة، ويكمل ذلك مواثيق الشرف الإعلامية، ولها أهمية كبرى لا تقل عن القوانين والتشريعات، وباتت المنظمات والمؤسسات الإعلامية مطالبة بصياغة وإعلان مثل تلك المواثيق، وقد باتت ضرورية بعد حالات الانفلات المخيفة التي ضربت كثيرا من قطاعات الإعلام العربي خاصة الفضائي منه، مع ضرورة تبني القواعد المهنية الحاكمة أو ما يسمى«ستايل بوك» لتوحيد المفاهيم والمصطلحات وأسلوب المقاربات وتحديد المحاذير السياسية والأمنية والدينية والمجتمعية التي تحتاج معالجات خاصة.

ثالثا: الإعلام ومواقع التواصل، ولعل هذه الجزئية تحديدا تحتاج لمزيد من الدراسات والمقالات والتحليلات كونها أصبحت ظاهرة كونية غيرت كثيرا من أوجه الحياة، وأوجدت واقعا جديدا، أغلب الظن أن معظم دول العالم لم تتمكن حتى الآن من استيعابه والتعامل معه تشريعيا وقانونيا ومهنيا وبضوابط واضحة، خاصة بعد هذا الخلط الكبير بين وسائل الإعلام الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي التي وضعها البعض في مرتبة أعلى من المنظومة الإعلامية ولكنها ليست كذلك بالقطع رغم أهميتها الشديدة في قياس ومعرفة توجهات الرأي العام، وكذلك بعدما تحولت تلك المواقع إلى مرتع للجماعات والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، مما دفع حكومات الدول الكبرى إلى ممارسة ضغوط عنيفة على شركات تلك المواقع لحذف المضمون المتطرف من على صفحاتها، وبات لزاما على حكوماتنا العربية وضع الضوابط الحاكمة لعمل تلك الوسائل.

وفي الختام فإن ما سبق عرضه مجرد نقاط سريعة قد تساعد على تهيئة البيئة الملائمة لمنظومة الإعلام لممارسة أدوارها ومهامها المنشودة في بناء الأوطان والإنسان وتطوير المجتمعات ودعم المعرفة والمستويات الفكرية والثقافية ورفع معدلات الحداثة والاستنارة للدخول للعالم الجديد على أرضية صلبة وبخطوات راسخة وعقول متطورة وواثقة تدرك جيدا طبيعة المكان والزمان والمرحلة الآنية وكيفية الانتقال للمستقبل بقواعده ومواكبة تطوراته المتلاحقة حتى لا تدهمنا مفاجآته.