isaf
isaf
أعمدة

عُمان: الجلال والجمال

17 نوفمبر 2017
17 نوفمبر 2017

د. إسعاف حمد -

[email protected] -

متهمةٌ أنا بأنني مدمنة سفرٍ، وهي تهمةٌ لا أنفيها لأنها واقعٌ يعكس داخلي التوّاق دائماً إلى الترحال في أرض الله كبديلٍ عن أشياء ربما لا أستطيع قولها أو التعبير عنها، وإنما استرجعها بيني وبين نفسي في السفر إلى كل مكان، لأزرع في ضوء الشمس ما ينمو خجولاً في مغاور النفس.

ولعل عُمان «أرض المزون والمجان» أكثر الأماكن التي تضعني في حالة اختبار، كالقطار في طريق الذهاب أبداً، كليلٍ لا ظلام فيه، كمجموعة أضواء تُبهر الروح، كلوحةٍ نسي الرسام أن يضع فيها الخط الأخير، كالحياة، ككتابٍ فيه كل اللغة العربية، وكل تاريخ الإنسانية، كخطٍ يشير إلى كل الاتجاهات، كسحرٍ، كخيالٍ، ككل الأشياء التي تدور في أحلامنا، كخيوط الشمس، كالحكايا الأشبه بالأساطير المستمدة من روايات السومريين عن « جبل النحاس» حتى زنجبار، وحيث عُمان ملكة الملكات من الخليج العربي والمحيط الهندي حتى إيران وباكستان، أو «بروميثيوس» الساعي إلى النار حيث النار معرفة، حتى لو صعد مثل «سيزيف» جبل الآلام ما دام سينقل للبشر سر اكتشاف النار، وهو تراثٌ مازال يُبحر باسم عُمان في دمشق، وبيروت، والقاهرة، وبغداد، وكل الفضاء، وكل البحور، وكل الأنهار.

عُمان ضالة الغريب، والحضن الدافئ لكل قريب، أسرتني منذ بدأتُ أزورها قبل أكثر من عشر سنين، ونقلتني من خانة «مدمنة سفر» إلى خانة «مدمنة عُمان» ولذلك أفهم ربما أكثر من غيري لماذا صُنّفت عُمان بين أكثر خمسة بلدان في العالم ترحيباً بالمغتربين العابرين، والعاشقين المتيّمين أمثالي، فشمسها دافئة، وقلوب أهلها قناديل أضاءها الحب للآخر من أي مكانٍ كان، ومدنها رحبة حميمة تفيض عراقة وأصالة، وإيقاع الحياة فيها هادئ رزين يعكس ملامح جلالة سلطانها وقابوسها المنير، حيث الحكمة خلاصة عيشٍ، والعقل سيدٌ ومحققٌ للغايات، وحيث التقبل والاحترام لوجهات نظر الآخرين نوع من إسمال العينيّن لتتفتح عيون البصيرة، فتسمو الروح ويتعالى الوطن على الغث من أمور الدول والبشر.

أعود لأذكّركم بأنني أتحدث عن عُمان، ولماذا أعشق عُمان؟ رغم شعوري أنني مهما قلتُ سيبقى هناك ما لم يُقال، لأنه يُحس، ولأن الكلام عن عُمان لا يفيها حقها، فيبدو كالخشية من الوقوع في بحر الخيبة حيث الكلمات كسيحة، وعُمان شبكة صيد لؤلؤٍ ومرجان من بحر الأزلية، وحيث لا حدود للصفات والسمات، بدءاً من التواصل المباشر الحميم بين السلطان والشعب، ومروراً بالتنوع الإنساني الجميل، وتاريخ عريق يمتد إلى اليوم الأول للبشرية، وامبراطورية قوية نافست بريطانيا والبرتغال على النفوذ منذ سنوات ليست بطوال، تشهد عليها وتؤكدها قلاعها وحصونها المنيعة، وفنونها التي صُنّفت بأنها تراث لكل الإنسانية، ونهضة شاملة جعلت المواطن العماني «قطب الرحى» في برامج التنمية.

ألم أقل لكم أن عُمان قطعةٌ من السماء، وجوهرة الأرض، وأجمل ما تملك جغرافيا العرب من الحلل الطبيعية، حيث تهطل « المزون » فتتحول الأجواء من برٍ وبحرٍ إلى شبه جنة عدن، وحيث تتدفق السكينة ينبوعاً من النقاء والسلام تجعل المرء يشعر أنه مباركٌ وينتمي بالروح والقلب والحلم إلى وطنين: وطنه الأم..وعُمان.

ولذلك كلما وطئت أرضها أشعر أنني دخلت عوالم حبٍ كنتُ أجهلها، وأعيش مشاعر لم أكن من قبل أفهمها، وأقابل أناساً يذكرونني بحكايات الجدات عن صبر أيوب، وتجلّد يونس، وتسامي وغفران يوسف عن خيانة ذوي القربى، وتتملكني دهشة كبرى كيف يمكن لسلطانٍ رغم السلطة والصولجان أن يكون أباً وصديقاً وشقيقاً، وهامساً في أذن الخيل الأصيلة: هوينك يا مباركة في أرض الفرسان والفروسية، فتفهم لماذا يأسرك أهل عُمان وسلطانها، فأنت في أرض الهامسين، أرض مروضي الخيول البرية، ومروضي الوحشة والغربة، والمحتجبين في الظل حياءً من أن يشعر الغريب أنه ضيف.

فسلامٌ على عُمان في يوم عيدها.. ولها السلام و سلامٌ لأهلها الطيبين الذين يشبهون رطب نخيلها.

وتحية حب وإجلال لسلطانها الذي جعل عُمان شبيهة روحه: صافية، نقية، شامخة، أبيّة.

■ جامعة دمشق