أفكار وآراء

«القلق» سر التقدم

08 نوفمبر 2017
08 نوفمبر 2017

مصباح قطب -

كتاب «دع القلق وابدأ الحياة»، والذي صدر منذ عقود، معروف للكافة، لكن ثمة ما يمكن الاختلاف معه في المبدأ الذي دعا إليه. تحدث الكتاب عن القلق الوجودي الذي يهيمن على حياة الأفراد بسبب تعقيدات الحياة الحديثة وكثرة الشواغل والهموم، والمفاجآت غير المتوقعة في مسار كل فرد أو أسرة أو منظمة، وكان اقتراحه في مواجهة كل ذلك هو التمسك بالتفاؤل، وان تعيش حياتك فأنت لن تمارس الوجود مرتين . أتحدث الآن وهنا عن قلق من نوع آخر، قلق إيجابي وبناء، اذا جاز القول، هو عدم الرضا عن الواقع والرغبة المستمرة في تطويره ودفعه للأمام، وكلما اقترن عدم الرضا برغبة في عمل عملي جاد يحقق منافع عامة للوطن كله أو للإنسانية، كلما كان أكثر مدعاة إلى الاحترام والتقدير. دعوتي هي إذا لمن لا يرضون بالقائم أبدا، ولديهم طوال الوقت انشغال بكيفية تطويره أو تغييره أو إبداله بما هو أفضل أوراقي وأكثر تقدما أو بساطة أو فاعلية الخ. دعوتي هي إلى من قال لهم أو لمن هم مثلهم، الكاتب الروسي مكسيم جوركي «جئت إلى هذا العالم لاعترض»، ليس بالمعنى الأجوف للاعتراض أو الاعتراض للحصول على مكسب أو غنيمة، أو للمكايدة، ولكن الاعتراض على أي واقع صعب أو مرهق أو مرير لهذه الفئة أو تلك من المرضى أو الأصحاء .. العاملين أو المتبطلين .. النساء أو الرجال ...هذه الأرض أو تلك.. سواء كانت في المناطق الزراعية اوالصحراوية.. هذا المجرى المائي أو ذاك  (من تلوث او تملح )،  بل ومعاناة هذا النبات ( من مرض ما  ) أو ذاك، أو تلك الحشرة  (كالنحل وما يصيبه  )، او معاناة المنطقة التى ولدت فيها، أو بلدي ككل، وهمي بمكانته في الإقليم وفي العالم. انه القلق الذي لا بديل عنه لتتقدم الأمم ولتستقر النفوس وتطمئن. وتعكس قصص الاختراعات أو الابتكارات البشرية الكبرى مثل هذا النوع من القلق الذي أتحدث عنه. لقد جاءت كلها نتاج عمل عقول جبارة طرح كل منها على نفسه سؤالا وأمضى شهورا وسنوات في قلق ومعاناة وقلة راحة وعمل لا يكل، وبحوث وتجريب وسعى في كل مكان إلى أن وصل إلى ما وصل اليه. اعرف أن المصادفات تلعب دورًا أحيانًا في كشوف كبرى، لكن تلك بكل تأكيد ليست القاعدة، كما أن المصادفة في العمل البحثي العلمي تحتاج هي ايضا إلى بيئة حاضنة مناسبة، فهي تذهب إلى من يستحقها وليس إلى أي عابر سبيل .

كيف كانت ستمضي حياتنا بدون بنسلين ومسكنات الآلام و المضادات الحيوية و مواد التخدير أو علاجات الأسهال والملاريا والتيفود ؟ كيف كانت ستصبح بدون طائرات وسفن وقطارات وكهرباء و معدات ري وتحلية مياه، واجهزة سينما و كمبيوترات وهواتف ذكية؟ . ماذا سيكون عليه الحال لو عادت إنتاجية الأرض الزراعية إلى ما كانت عليه منذ قرن ونصف وقبل ذلك ؟ وهل كان الإنتاج العالمي من الغذاء ليكفي البشر بعددهم الذي فاق 7 مليارات حاليا ؟ وهكذا. كل التطور الذي حدث سببه أن أناسا أقلقهم الوضع القائم، وتمنوا أن يتطور وعملوا من أجل ذلك. إنني أدعو كل من تتاح له الفرصة ليقرأ كتاب « الكيمياء بواتق وانابيق»، والذي تمت ترجمته إلى العربية منذ وقت مبكر، ليعرف النضال الإنساني المرير من اجل اكتشاف المعادن النادرة، والمواد  القادرة على تحويل أي معدن إلى ذهب - كما كان يعتقد منذ آلاف السنين وحتى بداية عصر النهضة في أوروبا -،  وكيف أضاع مئات العلماء حياتهم في البحث، وكم عانوا ولا أقول، وتشرد بعضهم وفقدوا ثروات أهليهم - اذا كانوا ممن ورثوا الكثير -، وكيف انتهى الأمر إلى اكتشاف اليورانيوم ثم التوصل إلى كيفية تفجير الذرة والهلاك الذي نجم عن ذلك، والتعهد الذي قطعه علماء معنيون على انفسهم بأن ينذروا كل جهودهم من اجل الدعوة إلى السلام، لان مخاطر الصراع في العصر النووي أصبحت ذات تكاليف مرعبة على كوكب الأرض كله. الكتاب مليء بالعبر لكل باحث شاب ومليء بالدروس في كيفية الصبر والدأب والإخلاص للعلم ومنهجه.

ابدأ القلق الإيجابي إذا لتبدأ حياة البحث العلمي والاختراع والابتكار .  الكشف العلمي كالكشف الصوفي كما يقولون . كل منهما إشراق في

الروح واشراق في العقل. إن صيحة « وجدتها» لا تدل فقط على فرحة الوصول الى نتيجة بحثية بعد معاناة، ولكنها إشارة إلى كل من سيأتي بعد مطلقها الى ان يعمل حتى « يجدها» هو الآخر . من اجل ذلك اقترح ان يوضع امام الباحثين في مجمعات الابتكار في أي قطر عربي - ومنها مجمع مسقط - وبوسائل مختلفة اهم التحديات التي تواجه الوطن /‏‏ السلطنة في مجالات البحث التي يعنى بها المجمع (الطاقة - البيولوجيا - التكنولوجيا  - المياه). وأكاد أن أذهب إلى اقتراح عمل فيديوهات وموسيقات وصور ومجسمات ورسوم بيانية وكاركاتيرية تجسد تلك التحديات والمعاناة التى تترتب على وجودها أو الفرص التي تضيع مع استمرارها ... حتى تكون نقطة البدء عند كل باحث أو مجموعة بحثية هي الانشغال بتلبية احتياجات مجتمعه الحالية والمستقبلية دون ان يهمل الجانب الانساني والعالمي في البحوث . ادعو كذلك الى تعزيز ثقافة فرق العمل بالمجمع، وفي الشركات التي تعمل معه أو تشاركه، ولقد رأيت في مصر -كمثال- ان البلد حقق تفوقا عالميا مثيرا للاعجاب في مجال الروبوتات، وفي ظني أن السبب الجوهري يعود إلى أن المسابقات العالمية المعنية تشترط تشكيل فرق عمل، كما أن الابتكار في هذا المجال بطبيعته يحتاج حتما إلى فريق متكامل فيه المصمم وخبير الطاقة وخبير الالكترونيات وخبير المعادن الخ . لقد تشعب العلم وتداخل بحيث يجب ان نعتبر التعقد هو الصديق الذي سيرافقنا في عملنا دوما، وبالتالي فالعمل في فرق متكاملة هو أحد أهم المداخل العصرية لتحقيق إنجازات بطريقة اسرع وأحسن، فضلا عن انه يولد في ذاته قيمة مضافة أخرى، تتمثل في انه يفتح آفاقا امام المجموع الذي يضمه الفريق للتفكير بشكل مستمر في الخطوة التالية .. فالابتكار حالة معدية ..وقد لاحظت ذلك إيضا في الفرق المصرية الفائزة في الروبوتات، فما ان يحصدوا جائزة الا ويتحدثون عن مشروعهم المقبل والذي لابد انه نشأ في اذهانهم خلال العمل في المشروع الاول وهكذا ؟ وثمة دعوة أخيرة الى عدم الاستعجال في اعلان النتائج والتأني في تقديم العمل الجديد ومنافعه والتحقق من ان مساهمات الجميع موثقة ومعروفة بشكل يرضى عنه كل من شارك وقد يكون من الخير لابناء هذا البلد العظيم - سلطنة عمان - ان يكونوا على اتصال دائم بالمراكز البحثية العربية والعالمية المعروفة في المجالين النظري والتطبيقي معا، فلا يمكن عمل فصل تام بين الاثنين. وأتمنى أن يوالي مجمع مسقط تشجيع الفرق التي تتوصل إلى نقطة متقدمة، ثم تتوقف أو تعجز عن استكمال البحث، أو تحويله إلى منتج عملي بسرعة، ما دام البحث واعدا وفق مقاييس متفق عليها . ليس كل بحث جاد ينتهي حتما إلى إنتاج سلعة (أو خدمة ) للسوق على الاقل في المدى القصير. بهكذا نهج ..عمان ستكون بعون الله، عنوان العصرنة والابتكار والبحث العلمي الجاد و النزيه .

[email protected]