المنوعات

عائشة السيفية: أفكّر في القارئ حين تنسحب اللحظة الشعرية

06 نوفمبر 2017
06 نوفمبر 2017

«العمانية»: تحتشد قصائد الشاعرة عائشة السيفية بالرؤى والتشكيلات والتعابير الصوفية، خصوصًا ذات الصبغة الحلّاجية، منطلقةً في ذلك من كون الحلّاج، ومَن هم على شاكلته، «نافذة للجمال» تركن إليها بوعيٍ ودون وعي، ثمّ تراها بطريقةٍ ما «عالقةً كرائحةٍ جميلة» في نصوصها.

وتصف الشاعرة المولودة سنة 1987، حضور الحلّاج بقولها في حوارٍ مع وكالة الأنباء العمانية، إنه «حضور شجرة السفرجل التي تتوسط بيتنا.. أقف أتأمّلها لساعات ثمّ أرى أثر رائحتها في قصيدةٍ ما». وتضيف: «حضوره كأثر كوبِ شايٍ بالقرفة شممته في مقهى عابر لا أتذكّره»، مؤكدةً أنها فُتنت بهذا الشاعر منذ أيّام الجامعةِ لأنّ لديه «قدرة هائلة في أن يبدو غير مرئيٍ ولكنْ مرئيّ في آن.. أن يحيط بك دون أن تحيط بهِ.. أن يكون خفيفًا بشكلٍ هائلٍ ولكن متجليًا في كلّ كلمة من قصائده..

تشعر أنّه كان يعرف نهايته وأنه متصالحٌ تمامًا معها». وفي تعليقها على قول الشاعر سيف الرحبي بأنها تكتب الشعر ضمن إيقاع تفعيلي لا يقيّد فضاء الحرية والحلم، وأن هناك سعيًا لديها للابتعاد عن قسْر الوزن وإكراه القافية، تقول السيفية التي تخرجت من كلية الهندسة بجامعة السلطان قابوس‏ قسم الهندسة المدنية (2010): «لا أعرف ما معيار القصيدة سوى أنّك حين تقرأها تعرف أنّها قصيدة..

القصيدة الجميلة لا تحتاج إلى معايير لتقول حين تقرأها: الله!». وهي تستحضر في هذا المجال ما قاله لها يومًا الشاعر العراقيّ عدنان الصّائغ: «أنا لست ناقدًا ولا أجيد تحليل النصّ.. أعرف فقط حين أقرأ شعرًا حقيقيًا أن أقول إنّه شعر..

يكفي ذلك». وتشير الشاعرة التي تعمل مديرة لشركة استثمارات هندسية هولندية في السلطنة، إلى أننا «شعوبٌ موسيقيّة بالفطرة.. منذ الأغاني الأولى التي تحرسنا بها الأمهات في المهد، والأناشيد التي نرددها في الحواري، وتلك التي تكبرُ معنا في المدرسة»، مؤكدة أن الموسيقى «مغموسة تمامًا في الذاكرة البعيدة، وبالتالي فليس من السّهل أن ننسحب من الوزن والقافية». وهي تبدي دهشتها من السؤال الذي يُطرَح عليها كثيرًا؛ إنْ كانت ستجرّب كتابة قصيدة النثر، موضحةً أنّ القصيدة عليها حين تولَد «ألّا تَحدُث بنيّةٍ مسبّقة في تحديد شكلها وصيغتها»، فالقصيدة «تخرج حرّةً من التصنيف»، ولهذا فإنّ تجربة الوزن والقافية لا تزال «مساحةً خصبةً» تستمتع بها لأنّ نصوصها تخرج موزونةً بطبيعتها الفطريّة دون أن تُكْرِهَ الوزنَ عليها.

وتدلّل صاحبة مجموعة «البحر يبدل قمصانه» (2014)، على ما ذهبتْ إليه بقولها إننا نقرأ قصائد شعراء عالميين مترجمةً دون وزن، وقد تكون في طبيعتها الأولى موزونة، ومع ذلك فإن متعتنا بها مدهشة، واحتفاءَنا بها عالٍ، وربّما أعلى من احتفائنا بالقصائد الموزونة..

وتضيف: إن هناك شعراءَ نثر عربًا يرفعون سقف توقّعاتك كشاعر، «حتى إنّك تقلق من أن تُقْدِم على التجربة النثريّة بدهشةٍ أقلّ من تلك التي يغمرونك بها، وتصبح أكثر حذرًا وأكثر انتقائيةً وأنت تقرأ للدهشة التي يغمرونك بها وأنت برفقةِ نصوصهم»، وهي تعلن دون تردد: «عندما تكتب قصيدة النّثر عليك أن تكون قارئًا شرسًا وناقدًا أكثر شراسةً لنصّك». وفي سياق تعقيبها على قول الروائي التونسيّ حسونة المصباحي إن قصيدتها تمسك بتفاصيل الحياة اليومية، وتكشف المستور في الذات المنطوية على نفسها، ترى السيفية التي تشرف على مختبر الشعر ببيت الزبير، أن القصيدة تكون ابنةَ الحياة و«فضّاحة» من غير مواربة، «عندما تبلغ بك الحساسيةُ تجاه الأشياءِ أن تقضي يومًا وأنت تتأمّل صنبورًا صَدِئًا أو ورقةَ شجرةٍ متآكِلةً، أو تُبكيك فردةُ حذاءٍ على الشّارع تفكّر في حكاية مَن تركها»، وأنها تكون كذلك «عندما تؤلِمُك ليومينِ، ندبةٌ غائرةٌ لمَحْتَها في وجهِ بائعٍ في الشّارع، تفكّر في حكايةِ وأثرِ بقائها في حياتهِ للأبد»، وأيضًا «عندما تتأمّل النقوش على كوبِ شايِك وتفكّر فيما حدث لليدِ التي خطّت هذه التعرّجات خَطًّا خَطًّا، فمثل هذه التفاصيل لا تعني أحدًا سوى الشّاعر الذي يعيش ملتقطًا كلّ ما يخلفه الآخرون، وكلّ ما لا يعني أحدًا».

وتشدد السيفية التي أعدت برنامج «مرافئ شعرية» لإذاعة سلطنة عمان (2007)، على أن القصيدة عندها، هي «ذاكرة التفاصيل» التي لا تريد لها أن تغادر.

وهذا -كما ترى- «متعبٌ جدًا»؛ إذ كيف للشاعرِ أن يتخلّص من حساسيتهِ المفرطة تجاه الأشياء؟ وتوضح -مثلًا- أنّ تذكُّرها لأبيها لا يحدث وهي تطالع صورته أو تتذكّره في حديثٍ عنه مع أحد، بل من خلال التفاصيل اليوميّة غير المرتبطةِ بهِ.

وهو ما تكشف عنه قصيدة لها جاء فيها:

«لا أحبّ أبي

-ميـِّتًا-

في تعافيهِ من قدرِ الغائبين

ولكنْ أحبّ أبي

حين ألمسه

في الورودِ

وفي نسمةِ البحرِ

حين أراه يطلّ عليّ

مِن الماءِ

من عين قطٍّ ألِيفٍ

وخطوِ حذاءٍ على الأرض

منْ ضحكةٍ دافئة..

من موسيقى مسائيّة

أتسلّى بها في ليالي البكاءِ

ومقطعِ شِعرٍ

وأرجوحةٍ في الحديقةِ

آوي إليها

ومقهى صغيرٍ

وزاويةٍ هادئة».

ولأن قصائدها تبدو أغنياتٍ تفيض بالشجن الذي يذكّر بشجن بدر شاكر السياب وشجن محمود درويش في قصائده الخريفيّة، كان لا بد عن سؤالها عن «الوصفة» التي تتّبعها لتعيش هذه التجربة وتختبر الخريف وهي لا تزال في «ربيع الحياة». تقول: «أعتقد أنّ لدى الشّاعرِ قدرةً على القفزِ على تجربته العمريّة لأنّه مدرّبٌ على اختصارِ الأشياء.. اختصار المشاهِد واختصار التفاصيل، واختصار الأحداث، والبشر.. فلمْ يحتج الشاعر العراقي أجود مجبل إلى أن يقول الكثير ليصف الفنان داخِل حسن كمْ كان مضيئًا: (هل سيكفيهِ أنّ شمسًا أحبّته/‏‏‏ لديها من ليلهِ أضواءُ؟!)، وكذلك السورية كاتيا راسم وهي تصف البؤس في أجَلِّ صُوَرهِ: (تعالي ولو بيدكِ السّكين أيّتها النهاية!)، ومثلهما الشاعرة اليمنية ميسون الإريانيّ التي صوّرت توحّش الرغبة على طريقتها: (أريد أن أقتلك حتى آخرِ العالم/‏‏‏ حتى آخرِ سحليّة تنقرض/‏‏‏ وآخر فستانٍ يجلب الضّجر)»، وتتابع السيفية التي صدرت لها مجموعة بعنوان «أحلام البنت العاشرة» (2016): «نحن نعيش مراتٍ كثيرة ونموت مرّاتٍ أكثر..هذه القدرة الهائلة على الانبعاث على هيئة مشاعر وصور وحيَوات وأناس وجمادات، تمنحنا القدرة على القفزِ على تواريخ ميلادنا إلى أعمارٍ أخرى.. أكبر منّا أو أصغر». وهي تؤكد أنها لم تكنْ لتواصل تجربة التشكّل الشعريّ دون مساندة عائلتها، معترفةً أنّ خروج شاعرةٍ من عائلةٍ محاِفظةٍ من قلبِ «نزوى» تريد للعالمِ أن يسمع صوتَ قصائدها، كان صادمًا لعائلتها ولآخرين، بخاصة والدها، الذي ضحك عندما قالت له أيّام دراستها الابتدائيّة إنها تكتب الشعر وأنشدت له قصيدةً في مديح القبيلة رغبةً في اجتذابِ اهتمامه.

ولم يكن يخطر في باله أنها ستواصل هذه «الرّحلة الشاقة». وحين بدأت السيفية تشارك في المسابقاتِ الشعريّة والأماسي وتخرج إلى العلن كشاعرة، لم تكنْ تدرك أنّ الأمر يحتاج «استعدادًا أُسَريًا» وأن تنطلق بحريّة المناضلة من أجل حقّها الفطري في أن تكون ما تريد أن تكون.

وقد احتاج الأمر سنواتٍ ليتقبّل والدها واقعَ الأمر وليدرك ما يعنيه الشّعر لها.

لكنّ ذلك لم يكنْ ليَحدُث لولا إيمان عائلتها بجديّة أثرِ الشّعر في حياتها وبأنّ كتابته «ليستْ نزوةً عابرة أو حلمًا سريع التلاشي». تقول السيفية في هذا الجانب: «لقد ساندتني عائلتي حين تخلّى عني كثيرون، وحموني حين اتُّهِمَتْ نصوصي بالفضائحيّة وقلّةِ الحياء، وكانوا ظهرًا وعونًا لي، وفي كثيرٍ من الأحيانِ أشفقتُ عليهم لأنّ عليهم تبرير ما لمْ يقترفوه للآخرين، ربّما ليس عنِ اقتناعٍ منهم، ولكنْ لأنّهم يعرفون ابنتهم أكثر من أيّ شخصٍ آخر..

يعرفون رسالتي، بجمالها وعواقبها وبسعادتها وآلامها».أما كيف تستطيع التجسير بين الشكل التقليدي، والحداثة في الصوغ والتعبير والأسلوب، فتوضح صاحبة مجموعة «لا أحبّ أبي» (2017)، أنها بدأت بالعمودي، ثمّ تركتْه لسنوات قبل أن تعود إليه أخيرا، وأن كلّ ذلك يحدث دون اختيارٍ منها، فالأمر مرتبط بـ«اللحظة الشعريّة» التي تبدأ ببيتِ شعرٍ أو بمقطعِ قصيدة تفعيلة.

وهي تؤكد أنّ بلوغ الدهشة من حيث المساحة التعبيرية أصعب في القصيدة العموديّة منه في قصيدة التفعيلة، لكنها «حادّةٌ» في استبعاد ما لا تحبّ، بمعنى أنّ عليها أن «تندهش» حتّى تقرر نشر قصيدةٍ عموديّة لها.

ويحدث كثيرًا أن تترك نصًا لأعوام لأنّه لا يدهشها ولا يقنعها لتنشره.

وتضيف في هذا السياق: «هناك تجارب شعريّة تكتب العمود تجعلني أكثر حذرًا فيما أكتب.

إنّهم رائعون في جعلِ هذا النصّ المحكوم بالصدرِ والعجزِ حُرًّا ومتجلّيًا وواسعًا لغويًا دون أن تشعر بإكراهِ القافيةِ عليه». وتنفي السيفية التي نالت عددًا كبيرًا من الجوائز في المسابقات الجامعية ومن وزارة التراث والثقافة والمنتدى الأدبي ومهرجان الشعر العماني السادس، أنها تفكر بالقارئ عند البدء بكتابة القصيدة، وتقول: «كيف أجبر وعيي على القفزِ على اللاوعي والقصيدة تشكّل لحظتَها ملامحَها الأولى؟»، مضيفة: «أنا أفكّر في القارئ حين تنسحب اللحظة الشعريّة وأتأمل القصيدة تأمُّلَ الغريب، وأخاف منه أحيانًا إلى حدّ أنّ عدمَ اقتناعي بكلمة واحدة في النصّ قد يقود إلى امتناعي عن نشرهِ حتّى يجيزه القارئ داخلي». وهي لا تخفي أن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا حين تقرر نشرَ النصّ في كتاب، فالنشر هو

«تجربة محمومة» لديها.. يصيبها بـ«كلّ حالات الفوبيا التي يمكن تخيّلها»؛ كأن تترك قاربك يبحر من الشاطئ وأنت تعرف أنّه لن يعود.

تترك نصّك للقارئ والنّاقد وأنت تدرك ألّا مجال لاسترداده.

وهذا تحديدًا هو الهاجس الذي يعنيه القارئ لها.

ولا ترى هذه الشاعرة التي شاركت أخيرًا في أمسية ضمن فعاليات معرض عمّان الدولي للكتاب وأمسية أخرى نظمتها دائرة الثقافة بالشارقة، أن الشعر بوصفه جمالًا، يمثل خلاصًا في زمن الحرب، فهو «لا يعيد الموتى، ولا يبني سقوف البيوتِ الخائرة، ولا يفتح مدرسةً أُغلقت أبوابها أو هُدّمت جدرانها.

لكنّه حتمًا قادرٌ على رتقِ وجعِ قلبٍ أو تكريمِ راحلٍ لا يتذكّره أحد.

إنّه الوردة التي تكسر حصار الصّحراء». وتختم السيفية حديثها بقولها إن كلّ شيءٍ بشعٌ في الحرب، ولكنّ قدَرَ الشّعر «أن يخرج من تلك العصارة ومن وسطِ الدّموع والاحتراق»، فليس بوسعنا أن نفعل إزاء كلّ هذا القبح الذي تخلّفه الحرب «سوى الاحتفاء بقصيدة جميلة لن تعيد حيًا، ولنْ تعيل أسرةً، ولكنْ ستذكّرنا دائمًا بأنّ على الحياةِ أن تمضي كما يراد لها، وتذكّرنا بمهمّتنا كشعراء أنْ نقول للعالمِ إننا القادرون على أنّ نصنع من قبحِكِ شيئًا جميلًا يُنعش انكسار قلبٍ وحيدٍ في هذا العالم».