الملف السياسي

تجاوز الأسلوب الكمي.. والاستفادة من النماذج الناجحة!!

06 نوفمبر 2017
06 نوفمبر 2017

د. عبد الحميد الموافي -

عندما انطلقت مسيرة النهضة العمانية الحديثة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- في الثالث والعشرين من يوليو عام 1970، كان هناك وعي وإدراك تأمين، ليس فقط لحجم ونوعية التحديات القائمة، والتي تفرض ضرورة التعامل معها، ولكن أيضا لحجم الآمال والتطلعات على مستوى أبناء الشعب العماني، وللحاجة الى العمل الجاد والسير بأسرع ما يمكن لتعويض ما فات.

وبإرادة وعزم ومسؤولية، وثقة غير محدودة، في قدرات واستعدادات المواطن العماني للتجاوب والمشاركة والإسهام بدوره، كان خيار جلالته منذ اللحظة الأولى بالاعتماد على المواطن العماني، ليكون القوة الفاعلة في العمل والبناء، وليكون غايته وهدفه أيضا، وإذا كنا في غير حاجة الى العودة الى سلسلة الإجراءات والخطوات التي اتخذتها القيادة العمانية في الأيام والأسابيع والأشهر، والسنوات الأولى لمسيرة النهضة العمانية الحديثة، ليعود الأبناء الى حضن الوطن، وليشارك كل صاحب معرفة وقدرة في عملية التأسيس في كل المجالات، وهو ما عاشه جيل الأجداد والآباء الذين تتجاوز أعمارهم الستين عاما الآن، فإن تعليم وتدريب وإعداد الأبناء والبنات كان بالفعل مفتاح الوطن للإسراع بإعداد كوادره في كل المجالات. نعم كانت هناك حاجة إلى كل شيء، لأن البداية كانت من الصفر، ولذا انطلق التعليم تحت ظل الشجر في الصباح وفي الفصول المسائية ليلا، ولكل من يريد، بغض النظر عن السن، كان الرهان على المواطن العماني، ويمكن القول بثقة ان الوطن كسب الرهان، فكل ابن يتعلم، وكل بنت تشق طريقها على مقاعد الدراسة وكل يصبر على قطع مراحل التعليم والانتقال من مرحلة الى أخرى ممن فاتهم قطار التعليم أو فرضت عليهم الظروف العمل في سن مبكرة، هو إضافة لقدرات الوطن، اليوم وغدا. ومن هنا فإن مما له دلالة عميقة أن جلالة السلطان المعظم- أبقاه الله- جعل «تطوير الموارد البشرية» أولى المحاور الأربعة التي ارتكزت عليها مسيرة النهضة المباركة، والمحاور الثلاثة الأخرى هي، «تطوير الموارد الطبيعية»، و«إنشاء البنية الأساسية»، و«إقامة دولة المؤسسات»، حيث أكد جلالته «اعتقدنا منذ البداية ولا نزال نعتقد جازمين، أنه- تطوير الموارد البشرية- حجر الزاوية في تنمية أي مجتمع، وذلك لأن الإنسان، كما أكدنا دائما وفي شتى المناسبات، هو هدف التنمية وغايتها، كما أنه أداتها وصانعها، وبقدر ما ينجح المجتمع في النهوض بموارده البشرية وتطويرها، وفي تأهيلها وتدريبها، وفي صقل مهاراتها وتنويع خبراتها، يكون نجاحه في إقامة الدولة العصرية المتقدمة في مختلف مجالات الحياة.»

بهذه الرؤية الواضحة، وعبر التشجيع الدائم للتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين، وإتاحة الكثير من السبل والوسائل لفتح مجالات العمل أمام الأبناء والبنات، بما في ذلك تحمل الحكومة لأجورهم خلال فترات التدريب التمهيدية على رأس العمل لتوظيفهم في نهايتها، وعبر إعطاء مزيد من الحوافز والتسهيلات للشركات التي تقوم بتوظيف أعداد اكبر من القوى العاملة الوطنية، وعبر منح الكثير من الامتيازات لإنشاء معاهد تدريب متخصصة، وهو ما استغلها البعض لخدمة مصالحه الخاصة، وعبر التشجيع المتواصل للشباب لإنشاء مشروعاتهم الخاصة، رواد الأعمال والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير مختلف التسهيلات الممكنة للأخذ بيد الشباب والوقوف إلى جانبهم حتى تشق مشروعاتهم طريقها وتقف على قدميها، ومن خلال صناديق دعم وبرامج تمويل ومساندة فنية عديدة ومتنوعة، منها «صندوق تنمية مشروعات الشباب»، و«صندوق الرفد»، ومشروع «سند»، وبمناشدة الشباب أيضا، ومن جانب جلالته، وفي مناسبات عديدة، الإقبال على العمل والقبول بالوظائف والأعمال المتاحة وأخذ زمام المبادرة لصنع حياتهم ومشروعاتهم الخاصة، وحتى تدليلهم - إذا جاز التعبير- بعرض ثلاثة خيارات أو فرص للعمل على الباحثين عن عمل للاختيار من بينها، وكانت نسبة غير قليلة ترفض تلك الخيارات، ربما انتظارا لما هو افضل، أو عدم استعجال للنزول الى مجال العمل وتحمل المسؤولية، والأكثر من ذلك ان الحكومة قامت بالعمل، وبشكل قانوني، لتقليل الفجوة بشأن امتيازات العمل في الحكومة وفي القطاع الخاص، وذلك في مجالات عديدة كالإجازات والتأمين، ووضع حد أدنى للأجور للقوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص، وحماية حقوق العاملين فيه عبر قانون العمل والتنظيمات النقابية، بكل هذه الترسانة من الإجراءات - وهي ليست كل الإجراءات بالتأكيد - تمت الدعوة للتعمين، والعمل على تحقيقه هذا الهدف الوطني منذ وقت مبكر أيضا، يقينا بأن الأوطان تبنى بسواعد أبنائها، وأنه إذا كان لا مناص من الاعتماد على قوى عاملة أجنبية لظروف أو أخرى، أو في مرحلة ما، فإنه من المؤكد ان ذلك لن يدوم، وأنه ينبغي- لاعتبارات عديدة- الاعتماد على أبناء الوطن في النهاية.

في هذا الإطار فانه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إنه في ظل تشبع الجهاز الإداري للدولة بالعاملين، وفي ظل نسبة التعمين العالية وعملية التعمين المتواصلة، لمن بقي فيه من العاملين غير العمانيين، ومع محدودية نسب الإحلال فيه، بحكم الوصول الى السن القانونية، أو بحكم الاستقالة المبكرة، فإن القطاع الخاص العماني يظل الجهة القادرة على استيعاب القوافل المتتابعة من الخريجين والملتحقين بسوق العمل عاما بعد عام، ليس فقط لأن نسبة التعمين في القطاع الخاص بوجه عام لا تزال متدنية جدا وتدور في حدود 12 % فقط كنسبة عامة، ولكن أيضا لأن القطاع الخاص في السلطنة يشهد عمليات توسع كبير في الاستثمارات في مختلف المجالات، سواء في مجال الإنشاءات أو الصناعة، أو السياحة أو الخدمات أو غيرها . وليس مصادفة أبدا أن يصل حجم القوى العاملة عير العمانية في القطاع الخاص الى نحو مليون وسبعمائة ألف عامل، في مقابل نحو 238 ألف مواطن يعملون فيه.

وإذا الإحصاءات المنشورة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول الإعداد في نهاية العام الماضي 2016 تشير إلى أن قطاعات الإنشاءات هو الأعلى تشغيلا للقوى العاملة الوافدة، نحو 651 ألف وافد مقابل 54 ألف عماني، يليه قطاع التجارة وإصلاح المركبات الذي يعمل فيه نحو 282 ألف شخص منهم 54 ألف مواطن فقط وقطاع الصناعات التحويلية الذي يعمل فيه 244 ألف شخص منهم 24 ألف عماني فقط، وهو ما يعني ان القطاعات الثلاثة المشار اليها يعمل بها نحو مليون ومائة الف وافد في مقابل 132 ألف مواطن فقد، أي بنسبة تعمين 6.10 %، فان الامر يدعو للتساؤل الى حد كبير . صحيح ان الإنشاءات تحتاج نوعية معينة من القوى العاملة، يتم تغطية العجز فيها من الخارج، ولكن التجارة واصلاح المركبات والصناعات التحويلية، تحتاج الى تدريب والى اعداد قوى عاملة مؤهلة للعمل في تلك المهن، ومراكز التدريب والكليات التقنية والمعاهد التدريبية موجودة ومتوفرة، فهل الأمر هو إحجام من جانب الابناء عن الاتجاه الى تلك المهن المربحة بالتأكيد، أم انه تباطؤ في التدريب ونهم في استجلاب القوى العاملة الوافدة ؟، الأمر الذي زاد بشكل حاد من أعداد القوى العاملة الوافدة برغم كل التحذيرات والإجراءات التي اتخذت في هذا المجال، ومن غير الممكن القول إن أعمال البناء والتوسع العمراني هو المسؤول وحده عن ذلك، لأن هناك أعدادا غير قليلة من القوى العاملة السائبة والهاربة والقوى العاملة المستترة حذر جلالة السلطان منها بشكل واضح وصريح، وهو ما يلقي بالمسؤولية على عاتق جهات عدة، للتوقف أمام ذلك والعمل على الحد منه بكل السبل الممكنة لحماية الاقتصاد العماني، وللحفاظ أيضا على الموارد الوطنية، ولدفع الشباب الى القيام بدوره والعمل في كل ما يتاح أمامه من مهن وأعمال شريفة.

*ثانيا : إنه إذا كان من غير الممكن توقع، ولا تصور ان تنخفض أعداد القوى العاملة الوافدة الى نصف ما هي عليه الآن، أي ان تكون في حدود ثمانمائة أو تسعمائة ألف عامل فقط، وهو ما يعني تفريغ مواقع عديدة ليشغلها مواطنون وخريجون على مدى السنوات القادمة، فإنه من المهم والضروري ان يكون هناك جهة وطنية مركزية قادرة على تكوين قاعدة بيانات حقيقية ومفصلة حول تركيب سوق العمل في السلطنة، وحول كل شرائح العاملين، مواطنين ووافدين، والخصائص والمؤهلات والخبرات الخاصة بكل شريحة، تمهيدا لوضع خطط إحلال على المستويين الوطني والقطاعي، وبالتعاون مع كل الجهات المعنية بما في ذلك شرطة عمان السلطانية ووزارة القوى العاملة والهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، وفي هذا المجال يظل المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، في ظل اختصاصاته، الجهة الوطنية القادرة على القيام بذلك، بحكم ما توفر ويتوفر له من معلومات، خاصة إذا تمت تلبية كل احتياجاته من الدارسين والمتخصصين والكوادر المؤهلة، وفتح قنوات تزويده بالمعلومات من جانب كل الجهات المعنية، ليكون الجهة المرجعية الوطنية في هذا المجال.

صحيح ستستمر الجهات الأخرى لديها الإحصاءات والأرقام والمتابعات الخاصة بها، والمرتبطة بمهامها وأدوارها الوطنية، كالشرطة والجوازات ووزارة القوى العاملة وغيرها، ولكن الصحيح انه آن الأوان لتكون أرقام المركز الوطني للإحصاء والمعلومات هي الأكثر تكاملا ودقة، لتكون ركيزة التخطيط في مختلف القطاعات على الصعيدين المرحلي والاستراتيجي . وليكون ذلك أيضا مدخلا لإغلاق أية ثغرات تتسلل منها القوى العاملة السائبة أو الهاربة أو المستترة، وليس عزيزا ان يتم تحديد مدى زمني معقول لتحقيق ذلك عمليا، لأنه اصبح ضرورة ملحة، اقتصاديا واجتماعيا أيضا. والمؤكد انه بعد مرور هذه السنوات فانه لم يعد ممكنا ولا مقبولا التعامل مع هدف التعمين بالأسلوب الكمي، المعتمد على مجرد أعداد العاملين المواطنين كنسبة من إجمالي العاملين، خاصة وانه معروف ما كان يحدث من مخالفات، بل وإساءات لعاملين عمانيين أحيانا، وبالتالي بات ضروريا تجاوز هذا الأسلوب، خاصة وان هناك كوادر مؤهلة ومدربة وقادرة على العمل التخصصي في كل المجالات دون استثناء .

*ثالثا : انه في الوقت الذي يصعب فيه تصنيف المجتمع العماني على انه مجتمع نفطي، باعتبار انه مجتمع حضاري منتج، اعتمد على نفسه منذ القدم، في الزراعة والصيد والتعدين والحرف اليدوية والتقليدية المختلفة، وان عائدات النفط لم تغير كثيرا من تقييمه الصحيح للعمل، ثم فإن المواطن العماني يمكنه العمل في كل القطاعات ودون استثناء وأثبتت السنوات السابقة ذلك، فإن القطاعات التي حققت تقدما ونجاحا في مجال التعمين، ومنها القطاع المصرفي، بنسبة تعمين تجاوزت 90 %، و قطاع الاتصالات بنسبة تعمين نحو 89 %، وقطاع النفط والغاز بنسبة تعمين نحو 79 %، وقطاع التأمين بنسبة تعمين نحو 66 %، وقطاع الفنادق بنسبة تعمين نحو 29 %، حققت هذا النجاح بمواطنين عمانيين، ولكن من خلال منهج محدد اتبعته تلك الجهات في معظمها، وهو قيامها هي بالتدريب العملي، وأحيانا بالتأهيل بدرجات، أو في مراحل معينة، للعاملين الجدد الذين يلتحقون بها، وهناك بالفعل نماذج مشرفة وبالغة الأهمية في البنوك وفي شركة تنمية نفط عمان وغيرها، تؤكد أهمية وفاعلية التعمين الكيفي والنوعي، وقد بدأت بعض شركات المقاولات والخدمات في الانتباه الى ذلك وإنشاء معاهد أو مراكز تدريب تابعة لها.

وإذا كان من المهم والضروري تعاون كل الجهات، الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين، والشباب المقبل على العمل والخريجين، لتحقيق هدف التعمين، فإن الاستفادة من التجارب الناجحة وإغلاق ثغرات تسلل العمالة السائبة والتأهيل الجيد للخريجين والتدريب الجيد لهم، تظل عناصر لا غنى عنها لتحقيق هدف بات يمس جوانب مؤثرة في حياة المجتمع اليوم وغدا.