المنوعات

أخيرا يأتي الغراب وقصص أخرى لإيتالو كالفينو

05 نوفمبر 2017
05 نوفمبر 2017

ليلى عبدالله -

إيتالو كالفينو صاحب الحكايات المشطورة والتاريخية الخيالية، قال عنه الكاتب والروائي كارلوس فوينتس: «إن القارئ لا يجد صعوبة في أن يدرك بأن رواية ما غير متوقعة من روايات الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو. إذ يكفي بعد قراءتها أن يشعر بالحسد تجاه هذا الكاتب الذي استطاع أن يهتدي إلى الفكرة قبل أن تهتدي إليها أنت. وهكذا تكون كل روايات إيتالو كالفينو ما ترغب أنت أيضا و بشدة في أن تكتبه».

وهذا ما يشعر به القارئ حين يقرأ كتابه القصصي «مختارات قصصية إيتالو كالفينو» ترجمها سمير القصير ونشرتها دار صحارى/‏‏‏‏‏‏ الطبعة تعود لعام 2000م. ما يميّز هذه المجموعة هي أنها مختارة من عدة مجموعات قصصية كتبها كالفينو في فترات زمنية مختلفة وفي الوقت نفسه تحتوي كل مجموعة على قصص متنوعة من حيث مضمونها وأسلوبها بل وشخصيتها أيضا. من الخصائص الكتابية التي عُرف بها إيتالو كالفينو في كتابة القصة القصيرة تحديدًا هو بناء أحداثه باتخاذ بطل واحد في مجمل عمله السردي، حيث الشخصية نفسها تظهر للقارئ في مواقف وأحداث متقلبة غير أنها تمضي في مجموعة قصصية واحدة، فعادة في كتابة المجموعات القصصية يتكئ الكاتب على شخصيات عديدة من خلالها يطرح أفكاره وتوجهاته غير أن كالفينو يستعرض حزمة أفكاره الغريبة، ولكن عبر شخصية واحدة نظهر في كل مرة في حدث قصصي مغاير، يُلبس البطل نفسه أدوارًا تعبّر عن توجهاته في العالم.

في هذا الكتاب مختاراته القصصية مستقاة من عدة شخصيات، كل شخصية تمثل نفسها ومضامينها في المجموعة، المجموعة الأولى مع شخصية «ماركو فالدو»، و المجموعة الثانية مع شخصية «بالومار»، أما المجموعة الثالثة فهي تتناول عدة شخصيات لكنها تنطوي على الأيقونة نفسها وهي «الحرب» عنونها بـــ«أخيرا يأتي الغراب»، ختمها بحكايتين من كتاباته الأولى. تناول كالفينو شخصية «ماركو فالدو» من خلال ست قصص حملت عناوين كالتالي: أطفال بابو ناتاله، غابة على الأوتوستراد، الصحفة، الحمام البلدي، دخان وريح وفقاعات صابون، حيث النهر أكثر زرقة.

يتقلب ماركو فالدو هنا في عدة أدوار، فهو بابو ناتاله أي بابا نويل للأطفال في إيطاليا، حيث تجبره شركة الدعايات التي يعمل بها أن يتنكر في زي بابا نويل ويقدم الهدايا لأبناء الأثرياء، ويجد نفسه يقدم هدايا غريبة لطفل أحد هؤلاء الأغنياء مثل مطرقة خشبية ذات رأس ضخم ومقلاع حجارة وكبريت، ينبهر الطفل الذي يحصل على هذه الأدوات لأول مرة في حياته وهو الذي اعتاد على هدايا باهظة الثمن، فيقوم باستخدامها، بالمطرقة يكسر كل ألعابه وكل الكريستالات، ثم يتناول الهدية الثانية فيقصف بالمقلاع كل ما يجده هدفًا للتصويب من كرات زجاجية على شجرة الميلاد إلى الثريات الفاخرة، أما الهدية الثالثة وكانت أخطرها. بعود كبريت أضرم النار في كل شيء بينما الطفل يقفز من الفرح. مع ذلك لم يسرّح من العمل بل هنئ على توظيفه للعب المدمرة التي صارت موضة، وصارت للشركة مكسبًا تجاريًّا!

والقصص الأخرى تجري على المنوال نفسه، لكن في عائلة فالدو، الأب مع أطفاله، حيث يسعون إلى تدمير الطبيعة مرة من خلال قطع الأخشاب للحصول على التدفئة، ومرة لصيد حمام بلدي أو أسماك ملوثة بالكيماويات من البحر، كل ذلك لإبراز كيف أن المنع والقمع كانا يسيّران حياة الناس البسطاء في ذلك الوقت؛ فرغم تفشي الفقر والجوع والبرد كان التدمير يجري دون تشف أو رغبة في الانتقام من شيء بل نابع من بساطة شخصيات ماركو فالدو وأطفاله، وتمتعهم بلحظاتهم الآنية بطرافة وخفة ظل في آن، وكانت المسار الوحيد لثورة نحو القمع لكن بأسلوب ناعم دون إقلاق السلطات بذلك، دون لفت أنظارهم بالتذمر بل كانوا يسعون إلى الطبيعة لإيجاد حلول لأحوالهم المعيشية القاهرة. وقد تميزت القصص هنا بأبعادها الاجتماعية المنطلقة من بيئة يغلبها البساطة، والأفق القصصي في تناوله للأفكار غلب عليه المتعة عبر شخصيات طبعت بالطرافة وحس الفكاهة لمعايشة محيطهم الصغير.

أما شخصية «بالومار» فقد تناولها كالفينو في خمس قصص: الثدي العاري، قراءة موجة، سيف الشمس، العالم ينظر إلى العالم، الخف غير المتجانس. في هذه العناوين تنطوي شخصية «بالومار» الرجل الذي يسعى إلى التأمل في الطبيعة وصلتها بالإنسان من خلال التفكر الغريب حول ظواهر يراها الآخرون مسلّمة غير أن بالومار يرى أنها يمكن أن تؤخذ تلك المعتقدات بنحو مختلف لو أن المرء غيّر يقينه حولها. ولعل قصة الثدي العاري تبرز هذه الفكرة، فبالومار يصطدم حين تجواله على الشاطئ بامرأة تتشمس بصدر عار، في البداية يحاول تجنبها غير أنه يرى أنه لو فعل ذلك فكأنه يثبت معتقدات الآخرين حول الجزء العاري من جسد المرأة؛ لذا يختار أن يتأمله بكونه جزءًا من جسد، وحين يدنو من المرأة كي يعزز رؤيته تتأفف المرأة وتتغطى من الفضولي النزق، وهنا يدرك بالومار أن انطباعاته وحده لا تكفي كي يقاوم بها حتى يسّلم بها غيره أيضا. وتمضي بقية القصص على هذا المغزى من انطباعات فكرية وفلسفية، تجري في تهويمات قد يجدها القارئ مملة أو كتبت بجرعة فكرية مكثفة طغت على خاصية المتعة التي يتوق لها القارئ في مطالعة القصص القصيرة، لتحقيق خاصية الاكتمال هو الفكرة و المتعة، وهنا في قصص هذا القسم غلبت الفكرة والبعد الفلسفي على المتعة.

أكمل قصص المجموعة وأكثرها فرادة من حيث المضمون وتناول الشخصيات هي «أخيرًا يأتي الغراب»، وقد تزعمت هنا «الحرب» بمعانيها الكبيرة كالمقاومة والعدو والجاسوس الفاشي غير أنه جسّدها في القصص بأسلوب هادئ بل ملتبس أيضا، ففي القصة الأولى «أخيرًا يأتي الغراب» وهي أكمل قصص المجموعة. صبي تحظى رماياته بإعجاب الجميع فيأخذ بندقية من الجنود ويغدو كل من في الطبيعة من عصافير وأرانب هدفًا له، حتى العدو المختبئ يغدو هدفًا يقضي عليه برصاصته المنطلقة بدقة نحو النسر الشارة المطرزة على سترته بينما غراب يحوم حول رأسه، يصيب هدفًا مفترضًا غير أنه حقيقي وهنا الصدمة المحضة. وبقية القصص تأتي على منوال الحرب تكون مواجهة بين طرفين، بين جندي وعدو، بين مقاوم وجاسوس، بين الناس كافة ولغم يلقى في البحر، بين ملك وملازم، بين عجوز وامرأة بدينة.

في المنحى نفسه يمرّر كالفينو قصصه، برز ذلك في الحكايتين الأخيرتين من المجموعة «أحاديث حول الأهمية» و«هناك من يقنع»، فهي بين شعب اعتاد أن يكون مروّضًا في يد سلطات تحظر الحياة وقت ما تشاء وترفع عنها الحظر وقت ما يحلو لها.