2252
2252
إشراقات

الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها .. لروجيه جارودي

02 نوفمبر 2017
02 نوفمبر 2017

«قرحة روحية آكلة» .. تتلون وفقا للأيديولوجيات الضيقة -

عرض: عبدالرحمن المسكري -

إن الحديث عن الأصوليات المعاصرة في وقتنا هذا يساعد على فهم جانب مهم مما آل إليه العالم من صراعات طاحنة، وحروب ضروس أبادت الحرث والنسل، تلك الحروب التي بُررت وتُبرر بذرائع عديدة، ظاهرها الرحمة وباطنها البطش والتنكيل والتشريد. كتاب جارودي – الذي يعود إلى أواخر سنوات القرن الماضي – يبحث في الجذور التاريخية لولادة الأصوليات المعاصرة التي ما زالت تتخفى وراء أشكال مؤسسية وثقافية مختلفة، وهي التي ما فتئت تُجدد أثوابها وتتلون وفقا لما تمليه المصالح الاقتصادية، والأيديولوجيات الضيقة.

إن كتاب «الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها» إذ يغوص وراء الجذور التاريخية لظهور مفاهيم (الأصولية)؛ تداولا على مستوى الخطاب، وتجليا واقعيا على المستوى السياسي والاقتصادي المعاصر؛ فإنه يكشف جانبا من تاريخ الصراعات التي ما زال العالم يعيش تحت لهيب أتونها، تلك الصراعات التي «تبعد العالم يوما بعد الآخر عن واحة السلام وبر الأمان»، فضلا عن أزمات الهيمنة الثقافية، والتكالب الاستعماري بصوره الحديثة.

 

ارتبط ذكر الحركات الأصولية بالإسلام والمسلمين؛ بحكم «البروبوجاندا» أحادية المنظور، ونتيجة للتوضيب الإعلامي الغربي من جهة، والترديد الببغائي في وسائل الإعلام العربية من جهة أخرى، فلا تكاد تذكر الأصولية إلا مقرونة بـ«المنظمات» الإسلاموية؛ في حين أن الأصولية مفهوم ينطبق على ممارسات سياسية دولية ، وأجندة مؤسسات ومنظمات عالمية؛ ابتداء بواشنطن عاصمة الديمقراطيات والحريات، وليس انتهاء بباريس مدينة الأنوار وعرابة حقوق الإنسان وتحرير الشعوب!!

وأكثر من هذا وذاك؛ جاء هذا الكتاب ليقول بوضوح ودون مواربة: إن الأصولية المعاصرة - بمختلف صورها- إنما هي «غربية المنشأ والصنع»، وأن الأصوليات الأخرى ما هي إلا انعكاس للأصولية الغربية في مرآة العالم الثالث. وبعبارة جارودي: «الأصولية الغربية هي العلة الأولى، ثم ولدت كل الأصوليات الأخرى ردا على أصولية الغرب».

هذه هي فكرة الكتاب الأساسية التي صاغت مخطط الكتاب، فتمحورت حولها أبواب الكتاب وفصوله. صدر الكتاب معربا في طبعته الأولى عن دار «ألفين» بباريس في 1992، وترجمه د.خليل أحمد خليل.

إن الأصولية - كما يقول جارودي- «قرحة روحية آكلة» تنتشر آثارها لتلقي بظلالها على مختلف الأصعدة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فالأصولية تقوم على نظرة فوقية واستعلائية، قوامها الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، والسلطة غير المحدودة ؛ لذلك فإنها تسعى إلى فرضها، سواء ارتدت - هذه الأصولية - شكلا دينيا أو سياسيا أو ثقافيا.

لذا فإن الأصولية العلموية – بحسب جارودي – تنطلق من تلك التصورات التي جعلت التقدم العلمي والتقني والحضاري ذريعة للحملات الاستعمارية والتوسعية؛ «فإلى جانب الذريعة الاقتصادية – المتمثلة في فتح الأسواق، والذريعة السياسية المنبنية على حيازة القواعد العسكرية؛ هناك الذريعة الإنسانية المتمثلة في نقل الحضارة!!»، وهو ما يعني تأكيد فوقية العِرق الغربي الأرفع، ليس باختيار إلهي – كما تنادي الكنائس بذلك – بل بتبرير عقلاني، ومبررات علمية وتقنية؛ ولذلك فإن هذا الشكل من أشكال الأصولية - كما يقول جارودي- ربما يكون الشكل الأشد مكرا: فهو قائم على اعتقاد مقدس بتفوق الغرب علميا وتقنيا على كل أنماط الحياة الأخرى المرتبطة بالتقاليد وبالتعصب اللاهوتي أو الديني؛ إذ إن معياره الوحيد هو السلطة المهيمنة بالعلم والتقنية على الطبيعة والبشر.

لقد اتخذ العلم شكلا أصوليا في تلك الرؤى، بل الممارسات الانتهازية التي جعلت منه معتقدا متحجرا «دغما»، الأمر الذي جعل من التقدم العلمي والعقل التكنوقراطي ديانة جديدة، أو بالأحرى سلطة جديدة، وهو ما منح الصناعيين والمهندسين (العلميين) أساسا أيديولوجيا. «حينها لم يكن الاستعمار يبرر ويسوغ بمساهمة الأناجيل؛ بل بمساهمة الحضارة العلمية والعلمانية ونقلها إلى الشعوب « البدائية» في المرحلة اللاهوتية»!، إن هذه الأيديولوجية حين استندت إلى التصور الماضوي للعلم –كما يقول جارودي- أصبحت أصولية شمولية «توليتارية»، قائمة على المصادرة القائلة: إن العلم يمكنه حل المسائل كلها، وإن ما لا يمكن للعلم أن يقيسه ويختبره ويتوقعه هو شيء غير موجود. إن هذه الرؤية إنما تستبعد أرفع أبعاد الحياة: كالحب، والإبداع الفني، والإيمان. ص24.

يرى جارودي أن «الستالينية» انحراف عن الماركسية، فالماركسية في جوهرها فلسفة ناقدة للمعرفة، تؤكد أن مقولاتها مرتبطة بظرفيتها وتجاربها الآنية، في حين أن الأصولية الستالينية مذهبية أصولية تقوم على قوانين عُدت بمثابة الحقائق المطلقة.

بدأ هذا الانحراف - بحسب جارودي - حينما أصبحت المنظومة السوفياتية بمثابة النموذج الوحيد والجامد للماركسية، وأقصت النماذج الأخرى. وتحولت الماركسية من كونها منهجا انتقاديا حيا لاستجواب الواقع استجوابا تجريبيا، حتى أصبحت نظاما وقوانين جامدة؛ تخول للحزب بأن « يتكلم باسم الطبقة، ثم يتكلم القادة باسم الجهاز، وفي نهاية المطاف سيتكلم شخص واحد وسيفكر باسم الجميع».

يقول جارودي: إن هذا التحريف الأصولي حولَ ماركسية ماركس إلى عكسها؛ فمبادرات ماركس التي تسمح بتحليل تناقضات المجتمع في عصره، جرى حصرها في منظومة دوغمائية تكرر صيغا مقولبة استطاعت أن تكون فرضيات صالحة لفهم المجتمعات الماضية؛ إلا أنها أضحت غير قابلة للاستعمال عندما انقطعت عن توليد فرضيات عمل أخرى وفقا لواقع عصرنا ومشاكله.

لا يتحدث روجيه جارودي عن أصولية فاتيكانية قبل عصر النهضة الأوروبية؛ بل عن أصولية كنيسية معاصرة؛ ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين؛ وذلك بعدما قامت الكنيسة الهرمية بفرض قانونها، والعودة إلى الماضي في سبيل تحديث دين الكنيسة بحسب تعبيره!

الأصولية الفاتيكانية بحسب جارودي أصولية دينية أصبحت لاهوتا للهيمنة ولإخضاع الشعوب، ووسيلة للدعاية للسلطات السياسية والجنرالات العسكرية: إن العودة إلى التكافل العملي بين المراتب الدينية والسلطات حتى لو تخفت وراء لغة شعبوية تخاطب التظاهرات الجماهرية الكبرى فإنما تواكب سياسة مركزية وتسلطية، غالبا ما ترتدي معالم إصلاح ملكي في حكومة الكنيسة!

في هذا السياق الزمني تأسست «لاهوتيات التحرير» في أمريكا اللاتينية في مقابل «لاهوتيات الهيمنة»، نتيجة للأوضاع البائسة من جهة، ولممارسات «المتحدات الكنسية القاعدية» القمعية من وجهة أخرى. منطلقة من مفهوم أنه: «يتعين على الدين أن يحرر لا أن يهيمن»، مستنكرة أن يصبح الدين «ضمانة أيديولجية»، لممارسات السلطة السياسية والاقتصادية.

غير أن هذا التوجه تمت محاربته وإدانته من قبل الكنيسة التقليدية وسدنتها من الجنرالات العسكرية، كشأن الكاردينال راتزينجر: «إن لاهوت التحرير والاختيار الأولي للفقراء هما طريقا تغلغل الماركسية في أمريكا اللاتينية ولا بد من محاربتهما» ص45.

يصر جارودي على تأكيد أن الأصوليات الإسلامية إنما هي نتيجة للممارسات الغربية تجاه الشرق عموما؛ ففي سياق حديثه عن الأصوليات الإسلاموية يعنون الفصل الثاني بـ: «أسباب الأصوليات الإسلامية»؛ مؤكدا بذلك فكرته التي انتظمت فصول الكتاب. ولذلك فإنه يرى أن الإسلاموية الإيرانية هي ردة فعل تجاه انحطاط الغرب أخلاقيا بحسب تعبيره. ولذا فإنه يرى أن الثورة الإيرانية لم تكن ثورة ضد نظام سياسي، وإنما هي ثورة موجهة ضد حضارة وبنية اقتصادية واجتماعية، حضارة الغرب تحديدا؛ ذلك أن استبداد الشاه الإيراني كان مدعوما من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، عسكريا وماليا وتقنيا، «فلم يكن في مستطاع المعارضة إلا أن تتجلى في الجوامع والمساجد، حيث آيات الله، حجج الإسلام، الذين كانوا ينددون بفساد النظام وبولائه للولايات المتحدة» في تلك المواعظ تكونت أطر الحركة الثورية، وهناك انصهر الدين والسياسة في مصهر الجهاد ضد الطاغية وأصدقائه الأجانب. ص65.

ومع أن جارودي يرى أن الثورة الإيرانية انطلقت من أهداف إنسانية وأخلاقية لتؤسس مشروعا اجتماعيا واقتصاديا، إلا أن هناك عاملين تاريخيين –بحسب رأيه- جعلا من المشروع الإيراني مشروعا أصوليا: الأول: تراث الإمامة الشيعية الذي أفضى إلى «شخصنة» السلطة. فالتراث المختص بالإسلام الشيعي هو تراث الإمامة، ما يعني وجود «إمام مستور» يُنتظر ظهوره أو رجوعه، ووفي ذلك السياق جرى اعتبار الخميني بوصفه «ممثله المرئي» محاطا بطبقة إكليروس: آية الله، حجة الإسلام، وأصبح كأنه مستودع للرسالة القرآنية» على حد تعبير جارودي؛ ولذا فإن الذي أفرزته الثورة الإسلامية في إيران هو «إضفاء القدسية» على السياسة، وهو ما كان يخدم أمراء الاستبداد والطبقات المميزة. والثاني: الحرب العراقية الإيرانية التي تحالف العالم فيها ضد إيران، هو ما أدى إلى تجذير النظام. فهذا الوجه الجديد لإيران بعد دولة الشاه أثار خوف كل الأنظمة القائمة في العالم، فأطلقت العراقَ إلى الحرب، وشكَلت تحالفا عاما ضد الثورة الإيرانية. تلك الحرب الموجهة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية قادت إيران نحو التشدد والتعصب.

يرى جارودي أيضا أن الإسلاموية الجزائرية جاءت ردة فعل على السياسيات الاستعمارية القادمة من غرب البحر المتوسط، والفرنسية منها تحديدا، التي عملت على «استيعاب» أولئك الذين قبلوا بالتهجين والتدجين، وبفقدان هوياتهم والاندماج مع السلطة، كما شجع الاستعمار الأشكال الأكثر تأخرا وبداية وأصولية. وفي الوقت نفسه كان يهاجم «العلماء التقدميين» كابن باديس والإبراهيمي. وهو الأمر الذي أدى إلى نهوض قومية أصولية متلبسة برداء ديني منغلق على الماضي؛ ولذلك لم يفلح في تكوين مشروع مجتمعي . إن هذه السياسات أوجدت مناخا انقياديا سلبيا للزعماء الدينيين الذين لا يدعون إلى إعمال الفكر ومبدأ المشاركة، ومن ثم فمن شأن أي مجتمع هذا شأنه أن يكون طريدة سهلة للقوى الأجنبية من خلال توطيد وصاية أيديولوجية من خلال تبعية اقتصادية!

وإلى جانب ذلك يرى جارودي أن العامل الثالث في ظهور الأصوليات الإسلاموية يتمثل في السياسة الإسرائيلية، القائمة على مبادئ استعمارية، فإلى جانب الذرائع التوسعية المتمثلة في حفظ مصالح أوربا في المنطقة؛ تستند الدولة الإسرائيلية على تصور مذهبي وعنصري للدولة؛ فالكيان الإسرائيلي يقدم مثلا نموذجيا للأصولية، حين يطالب بفلسطين، باسم تصور للدين رجعي. فالأصولية الصهيونية حينما ترفع التوراة عنوانا لملكية موقعة من الله؛ فإنما يقدمون الذريعة الأيديولوجية لطرد المواطنين الأصليين الفلسطينيين وقتلهم.

في هذه الأثناء ونتيجة لهذه الظروف يرى جارودي أن حضور الغرب على هذا النحو المهيمن في العالم الإسلامي غذى في المقابل تيارات إسلاموية، وشجع على قيام دكتاتوريات عسكرية تسوغ هيمنتها واستبدادها، وأن قلقا تنامى لدى الشعوب الإسلامية من مؤامرة عالمية ومن حصار يحظى بالضوء الأخضر الأمريكي لكل تعديات الصهاينة، وهو جو مؤات في كل البلدان ذات الأغلبية الإسلامية لكل الدهماويات وكل المذهبيات الأصولية التي تقدم نفسها باعتبارها مدافعة عن التراث الإسلامي دفاعا خالصا ومتشددا في مواجهة الغرب.

والمصدر الرابع - وهو مصدر رئيس للأصوليات الإسلاموية في الشرق بحسب جارودي - هو نفوذ دولة في العالم الإسلامي بفضل قوتها النفطية، وتحالفها مع القوى الغربية لا سيما بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال إمكانياتها المادية الضخمة تستطيع تمويل جميع الحركات الإسلامية في العالم كله لخدمة مقاصدها. كما أنها عمدت إلى تصدير «إسلام النفط» إلى مجتمعات أخرى، من خلال بناء المساجد الضخمة، وتمويل انتشار الكتب والمنشورات المرتبطة بهذا النوع من التدين. يقول جارودي: «إن إسلام النفط هذا هو المد الأسود الطاغي على الإسلام القرآني والنبوي».