أفكار وآراء

إفرازات التمويل العقاري

01 نوفمبر 2017
01 نوفمبر 2017

د. عبدالقادر ورسمه غالب -

المسكن من أهم المتطلبات الأساسية في الحياة لكل شخص، ولذا يسعى كل فرد لتوفير المسكن لشخصه ولأسرته حتى تعيش في استقرار واطمئنان تام. ومع نمو وظهور المدن الحديثة الكبيرة والهجرة نحوها، أصبح توفر المسكن المناسب يشكل هاجسًا مقلقًا للجميع لعدة أسباب أهمها قلة المساحة وندرة وارتفاع أسعار الأراضي السكنية والزيادة التصاعدية لتكاليف البناء .. وكل هذا، ضمن أشياء أخرى، ساعد في حدوث أزمة سكن في كل مكان، وكل يوم تزداد هذه الأزمة وتتشعب وفي مقابلها يزيد عدد الأسر المحتاجة للسكن ويزيد عدد أفراد هذه الأسر مما يزيد من تفاقم أزمة السكن والمساكن. وبالطبع تتدخل الحكومات وتنادي جهات التمويل العقاري والبنوك بضرورة ردم الهوة وبذل الجهود لتوفير المساكن المناسبة لكل من يحتاج للسكن والمأوى؛ لأنه من الحقوق الأساسية.

كما نعلم، وبسبب الهلع وربما بعض الأنانية المقرونة بالطمع ظهرت مشاكل التمويل والرهن العقاري المرتبط بها في أمريكا.. وبسبب البحث الحميم عن المادة تم زيادة وتفخيم أسعار العقارات واصطناع الأوراق الخاصة بالرهن العقاري بعيدًا عن الواقع وبما يخالفه، وظل هذا التلاعب مستمرًا حتى انهار الوضع المصرفي بسبب مشاكل التمويل والرهن العقاري «المفبرك» غير الحقيقي إذ إن سعر العقار على الورق يتجاوز السعر الحقيقي الواقعي بمراحل عديدة... وحدثت أزمة الـ«صب برايم» وانهار النظام المفبرك وسقطت معه إمبراطوريات مالية كبيرة، وكل هذا بسبب التمويل العقاري والسعي الدؤوب الذي لا يخلو من المضاربات من أجل توفير السكن وأيضا البحث عن المادة بالاقتراض ورهن العقار.

كما نعلم، وبعد أمريكا بقليل، اهتزت عروش إمبراطوريات مصرفية ومالية كبيرة في اسبانيا وفرنسا وايطاليا واليونان وكل أركان أوروبا وهذا أثر بدوره على البنوك في كل العالم وعلى اقتصاد الدول بل وعلى الأنظمة الاقتصادية كالوحدة الأوروبية وغيرها. وطالما هناك حاجة للمسكن ستتواصل الضغوط والمضاربات الجشعة لأن الكل يسعى للحصول على ما يفيده حتى لو تضرر غيره. وفي رأينا، فإن التدخل القانوني الفاعل والفعال سيعيد بعض التوازن في سوق هذه السلعة الحيوية.

قامت بعض الدول بإصدار قوانين للرهن العقاري بهدف تنظيم التمويل والإقراض العقاري لشراء العقارات والمساكن بضمان رهنها «المساكن» رهنا رسميا وفق ضوابط قانونية معينة تنظم العلاقة أو الاتفاق بين كل الأطراف من المقرض والمقترض وبائع العقار أو المطور. ووفقًا للقانون يتضمن الاتفاق الشروط المتفق عليها بين بائع العقار والمقترض شاملة تفاصيل العقار والثمن الحقيقي، مقدار القرض المقدم وشروط سداده، التزام المقترض بسداد الفرق بين قيمة القرض وثمن البيع المتفق عليه، التزام البائع تسجيل العقار باسم المقترض خاليًا من أية موانع أو حقوق عينية للغير، الالتزام برهن العقار لصالح المقرض رهنا رسميا لحين الوفاء بكامل القرض وفق الاتفاق مع منح الحق في اعتبار عقد الرهن بمثابة السند التنفيذي الذي يحق بموجبه التنفيذ مباشرة أمام محاكم التنفيذ...وفي هذا نشير لتجربة البحرين حيث تمت الاستفادة كثيرًا من إجراءات السند التنفيذي في البحرين، تحديد من يلتزم بسداد قيمة نفقات الرهن ورسوم قيد الرهن وهذا المبلغ قد يكون كبيرًا ولا بد من أن يتم الاتفاق بشأنه من البداية... كذلك لا يجوز للمقترض، وفق القانون، التصرف في العقار بالبيع أو الهبة أو التنازل أو غيره من التصرفات الناقلة للملكية ، كما لا يجوز ترتيب أي حق عيني على العقار إلا بموافقة المقرض وبشرط أن يقبل المتصرف إليه الحلول محل المقترض في الالتزامات المترتبة على عقد الرهن وللمقرض أن يشترط ضمان المقترض مع المتصرف إليه في الوفاء بكل هذه الالتزامات، وغيره من الضوابط القانونية لحفظ حقوق كل الأطراف بشفافية ومنع التلاعب والمضاربات مع تضييق الخناق على كل التصرفات الناقلة للملكية إلا بعلم الأطراف الكامل ووفق التقييم الفني السليم. وفي جميع الأحوال، يجب أن تشكل هذه القوانين المختصة سياجًا قويًا للحفاظ على حقوق ملكية العقار وأيضا كافة التصرفات المرتبطة به من بيع وشراء وتطوير وتمويل مصرفي؛ لأن هذا سيقود بدوره إلى الاستقرار في هذه السلعة الحيوية المهمة للجميع.

وبعد توفر الاستقرار والأرضية القانونية السليمة فإن الطفرة الإسكانية في أي مكان من دون شك لا يمكن أن تتم بدون المساعدات السخية من الجهاز المصرفي، ولكن حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه فهناك ضرورة ملحة بل حتمية تستدعي الحكمة في تصريف كل الممارسات المصرفية حيال التمويل العقاري، والاستفادة هنا مما حدث في تلك الدول «العظمى» أمر ضروري حتمي. وفي هذا السياق، لقد قامت عدة دول في المنطقة، بدعم من البنوك المركزية، باستحداث وبلورة تجارب جديدة لتنظيم قروض الرهن العقاري وتمويل العقار خاصة وأن الطفرة الإسكانية والعمرانية والإنشائية تزيد وتتطور في كل يوم. وهذا النشاط المحموم في العقار، سواء للسكن أو الاستثمار أو المتاجرة، يحتاج لدعم البنوك مما يستدعي تكاتف جهود البنوك المركزية والبنوك المرخصة لوضع ضوابط قانونية جديدة لتنظيم هذا الموضوع بعد النظر في التجارب الأخرى للاستفادة منها.

نشير لتجربة دولة الإمارات حيث تم، قبل فترة، وضع ضوابط قانونية جديدة بحيث يكون سقف تمويل العقارات للمواطنين 80% من قيمة الوحدة السكنية، إذا كانت قيمتها تقل عن 8 ملايين درهم، ويكون السقف 75% للمقيمين. والنسبة المذكورة للمسكن الأول على أن تقل القيمة 15% لكل منهما للمسكن الثاني. وفي جميع الأحوال يكون الحد الأقصى للتمويل ما يعادل إجمالي قيمة الراتب أو الدخل المنتظم لمدة 8 سنوات للفرد المقترض لمدة تمويل تصل إلى 25 سنة للمواطن والمقيم على حد سواء. ومن الضوابط أيضا منع الإقراض للعقارات على الخارطة أو قبل بدء الأعمال الإنشائية بأكثر من 50% من القيمة.

لا شك أن هذه الضوابط الجديدة ستحكم العلاقة بين البنوك من جهة والأطراف الأخرى المرتبطة بالتمويل العقاري من الجهة الأخرى وفي هذا تنظيم واضح لدور البنوك حيال تمويل النشاط العقاري ودعمه وفق أسس سليمة. وقطعًا فإن مثل هذا العمل يمثل تحركا محمودا ستعود فائدته على الطفرة العقارية، وبما يساهم في الرفاه والاستقرار وتوفير السكن والمأوى الملائم للجميع.

 

Email: [email protected]