الملف السياسي

عندما يتحول الإعلام إلى عبء على السياسة !!

30 أكتوبر 2017
30 أكتوبر 2017

د. عبد الحميد الموافي -

ان النضوج والمسؤولية والوعي كفيلة بمساعدة المخلصين من الإعلاميين العرب للعمل من اجل حاضر عربي افضل ، ومن اجل إبعاد الشعوب العربية وعلاقات أبنائها عن تقلبات السياسة العربية ، او على الأقل عدم الانغماس في ذلك الى حد التخريب ، كما يحدث الآن .

بالرغم من المقولة الشائعة التي تقول إن « العرب اتفقوا على الا يتفقوا « ، وهي مقولة تعود الى عقود عديدة ، وبالرغم أيضا من ان الخلافات بين الأشقاء، تكاد تكون سمة دائمة للعلاقات العربية ، الا انه من غير الممكن تصور اختفائها تماما ، أو بشكل كامل ، فهذا أمر غير واقعي . صحيح تتفاوت حدة الخلافات، وتتنوع وتتعدد أسبابها والدوافع الكامنة وراءها ، سواء كانت أسبابا ودوافع شخصية ، او سياسية او اقتصادية او مالية او إعلامية ، أو غيرها ، ولكن الصحيح أيضا هو أنها كانت دائما موجودة بشكل او بآخر ، ولم تخف حدتها الا في فترات محدودة للغاية ، منها مثلا في أعقاب هزيمة يونيو عام 1967 ، حتى لا تفسر بعض المواقف على أنها شماتة ، وقبيل وأثناء وفي أعقاب حرب 1973 ، حيث قلّت حدة وعدد الخلافات بين الأشقاء الى درجة كبيرة ، وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي عندما عادت مصر الى جامعة الدول العربية ، وعادت الأمانة العامة للجامعة الى القاهرة، بعد نحو عشر سنوات استضافتها فيها العاصمة التونسية تونس ، وعلى ذلك فإن التعايش والتكيف مع الخلافات العربية - التي لن تختف بعصا سحرية - هو أمر ضروري ولا مناص منه ، وان كان ذلك يقتضي ، او يتطلب العمل والسعي ، بشكل جاد ومخلص ايضا ، الى احتواء الخلافات والحد من نطاقها ، وتجنب إشعالها ، او النفخ في نيرانها ، وبالتأكيد عدم اللجوء تحت اية ظروف ، أو أمام أية لغراءات ، أو لأية أسباب ، الى توسيع نطاقها بإدخال الشعوب العربية ، او بعض فئاتها ، أو الرموز السياسية لها ، ضمن دائرة هذه الخلافات ، لسبب بسيط هو ان الوقوع في هذه الهوة يدفع بالخلافات الى الخروج عن دوائرها واسبابها التي أدت اليها ، ويضيف إليها أسبابا وعناصر تزيد من تعقيدها ،وتساعد في إطالة امدها ، والأخطر انها تسمم العلاقات بين الشعوب الشقيقة ، وهو أمر ليس في صالح أي طرف عربي بالتأكيد .

ولعل نظرة سريعة الى الساحة العربية الآن كفيلة ، ليس فقط باثارة الألم والاسي ، في قلب كل عربي مخلص ، أو يتمنى خيرا لشعوب المنطقة ، في حاضرها ومستقبلها ، ولكن ايضا بإثارة الجزع ، حول ما يمكن ان تؤول اليه العلاقات بين الشعوب والقيادات العربية ، بعد كل السخائم والاسفاف ، والانحدار والتجاوز ، الذي مارسته العديد من اجهزة ووسائل الاعلام العربية ، وبالطبع وسائل التواصل الاجتماعي ، التي انضمت بجحافلها الى الجوقة ، والى حفلات الردح ، تحت سمع وبصر، وربما بايعاز، او بسكوت اقرب الى التشجيع والاستحسان ، على الاقل من جانب بعض دوائر السياسة والسلطة في بعض الدول الشقيقة ، دون حساب لما يمكن ان يترتب على ذلك من آثار ونتائج لن تختفي لمدة غير قليلة ، حتى لو انتهت الخلافات الراهنة .

على أية حال فإنه يمكن الاشارة الى بعض الجوانب ، وباختصار شديد ، ولعل من اهمها ما يلي :

*أولا : انه من المعروف على نطاق واسع ، وعلى امتداد العالم ، غربا وشرقا ، إن الإعلام وأدواته المختلفة ، هو احد اهم أدوات السياسة ، الداخلية والخارجية للدول المختلفة ، هو أداة مهمة للتعبير عن تلك السياسات ، وايضاحها وإلقاء الضوء عليها ، الى جانب مهمة ودور تفسيرها وكسب التأييد لها ، ومواجهة معارضيها او المشككين فيها ، أو أعدائها . الإعلام يعبر عن السياسة ، ولكنه بالتأكيد لا يصنعها ، لأسباب عديدة . ومن هنا فإن الإعلام ، والمواقف التي تعبر عنها الوسائل الإعلامية المختلفة في الدولة ، ولا سيما الوسائل المرتبطة بالسلطة ، هي مؤشرات شديدة الأهمية ، للتعرف على مواقف وتوجهات الحكومات ، على الأقل بشكل عام ، حتى وان أكدت السلطات عادة ، انه لا علاقة لها بوسائل الإعلام ، أو ان مواقفها - مواقف الحكومات او المواقف الرسمية - يتم التعبير عنها بالأساليب الرسمية والدبلوماسية المعروفة ، في شكل بيانات او تصريحات او مؤتمرات صحفية او غيرها . وان ما تعبر عنه وسائل الإعلام يتم في إطار ما تتمتع به من حريات يحميها القانون . وبغض النظر عن أي جدل فإن الجميع يهتم بمتابعة ودراسة ما تحمله وسائل الإعلام من رسائل ومواقف للتعرف على مواقف وتوجهات الدولة الأخرى ، في وقت معين وحيال قضايا معينة ، ومدى ما يطرأ من تغيرات في هذا الشأن . وهذا أمر لا استثناء فيه بين الدول في الظروف المختلفة ، وخاصة في أوقات الأزمات .

وفي هذا الإطار ، فإن الساحة الإعلامية العربية الآن تشير بوضوح الى تدن بالغ في لغة الحوار وفي الأداء الإعلامي وفي معالجة مشكلات العلاقات والخلافات بين الأشقاء ، وعلى نحو غير مسبوق بالتأكيد ، وهو ما يعني تعقد وتعدد عناصر الخلافات وتشابكها ، على ان الأخطر هو ادخال الشعوب العربية في دائرتها ، وادخال الرموز السياسية العربية ضمن عناصرها ، وهو ما يترك آثارا شديدة ليس فقط على العلاقات بين الشعوب الشقيقة ، ولكن ايضا على الرموز السياسية التي ينبغي ان تظل بعيدة عن أي تشويه أو مساس بصورتها لدى شعوبها او على المستوى العام . والمفارقة في كثير من الأحيان تتمثل في حقيقة ان الوقوع في هوة التطاول على الشعوب الشقيقة ورموزها السياسية لا يكون ، في كل الأحوال تقريبا ، بإيعاز سياسي ، بقدر ما يكون تطوعا من عناصر إعلامية مراهقة او ضيقة الافق ، تريد الظهور او اثبات الذات لسبب او لآخر ، او تريد مجاملة طرف ما في السلطة او قريب منها ، لأسباب تخص حساباتها هي ، وليس مصالح دولها الوطنية ، وعادة ما يثير ذلك رد فعل الطرف او الأطراف الأخرى ، من مبدأ ان البادي اظلم ، وتدور حلقة وحفلات الردح المتبادل على نحو غير لائق وغير مفيد ايضا ، بكل ما يثيره من تسميم للعلاقات بين الأشقاء وإساءات للرموز السياسية . ومن المؤكد ان هذه التجاوزات والممارسات تجعل من الإعلام عبئا على السياسة ، في حين انه ينبغي ان يكون داعما لها ومساعدا على تحقيق أهدافها .

*ثانيا : ان المشكلة الأساسية في الإعلام العربي بوجه عام انه ، في غالبيته أو معظمه على الاقل ، لم يشب بعد عن الطوق ، فهو لا يرى نفسه غالبا ، الا ظل للحكومات ولمواقفها ، ولذا فإن مواقف التجاوز على الآخرين ، من الأشقاء وغيرهم ، تأتي غالبا من وسائل إعلام خاصة ، او غير رسمية ، أو أهلية يريد أصحابها او القوى التي تقف ورائها ، الاقتراب اكثر من السلطة وإظهار محاباتهم لها في ظروف معينة ، حتى لو كان ذلك بهذا الأسلوب الذي يشكل عبئا على السياسة والدبلوماسية الوطنية للدولة في ظروف محددة ، والأمثلة كثيرة على ذلك في عالمنا العربي في السنوات الأخيرة وقبلها ايضا . وبعد ان كانت وسائل الإعلام محدودة ومعدودة ونطاق تأثيرها خارج الحدود غير كبير في العقود السابقة ، فان تقنيات الإعلام ووسائل الاتصال والبث الفضائي منذ التسعينيات زادت في الواقع من حجم ونطاق وقوة تأثير وسائل الإعلام ، ومكنتها من تجاوز الحدود والوصول الى الجمهور في الزمن الحقيقي لوقوع الحدث ، والأكثر من ذلك ان وسائل التواصل الاجتماعي أضافت أطرافا اخرى ، سواء أفزادا او مجموعات ، او اجهزة تشن حملات بوسائل مختلفة ، وهو ما زاد من تعقيد الوضع ، ومن صعوبة سيطرة الدولة على وسائل الاعلام التابعة لها ، أو العاملة من اراضيها ، أما العاملة من خارجها فإنها تقف أمامها عاجزة في كثير من الأحيان .

وبالنسبة لهذه النقطة ايضا - علاقة السلطة بأجهزة الاعلام في دولها - فإن الخبرة العربية أشارت دوما الى درس ثابت ومتكرر يتمثل في الاتفاق بين الدول العربية على وقف الحملات الإعلامية المتبادلة، كان يحدث ، كتمهيد ومدخل لحل خلافاتها السياسية ، ولإيجاد أجواء من التهدئة تساعد على ذلك . وقد نجح هذا الامر من قبل دوما ، ومنذ اول قمة عربية عام 1963 ، والمؤكد أننا نحتاج الى هذا الامر الآن ، اكثر من ذي قبل ، ومع إدراك ان الأمر الآن اكثر صعوبة من ذي قبل ، خاصة في ظل الانفلات الاعلامي ، الا ان السلطات العربية تستطيع - عندما تريد - إلزام مختلف الوسائل الاعلامية بما تقرره ، ولعل الحكومات العربية تسرع في وقف الحملات المتبادلة لتدفع الوسائل الاعلامية الرسمية وغير الرسمية الى الالتزام بذلك لتهيئة جو من التهدئة يساعد على امكانية حل الخلافات بالحوار الايجابي والطرق السلمية وعلى أساس من الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى ، والتعاون الحقيقي في مكافحة الارهاب ، بكل اشكاله وصوره . ومع ذلك فإن المشكلة ربما تظل ، حتى الآن على الأقل ، في ملعب السياسيين الذين لا يرون ان الوقت قد حان لحل تلك الخلافات ، لسبب او لآخر ، ولذا فإنهم يغضون الطرف عن سخائم الاعلام ، ولا يريدون وقف ذلك ، وهنا تتحمل السلطات بالتأكيد جانبا من المسؤولية ، بالرغم من أنها ذاتها تدفع ثمن ذلك ، عبر تعرض اعلام الآخرين لها ، ولذا فإنه من المفيد ان يتم وقف كل الحملات الاعلامية بين الاشقاء ، مع اتخاذ كل ما يمكن للحد من التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي ، للإبقاء على علاقات الشعوب دون تدهور او بث للشكوك او الاحقاد فيما بينها .

والمؤكد ان من يبادر الى وقف تلك الحملات سيكون الاكثر ادراكا للمصلحة الفردية والجماعية ايضا ، ولعل كل سياسيينا العرب يدركون ذلك ويبادرون اليه .

*ثالثا : انه اذا كان النضوج يؤدي الى ادراك المسؤولية ، فان ممارسة الاعلام العربي لمسؤولياته الوطنية والقومية ، لخدمة مصالح الشعوب العربية ، في الحاضر والمستقبل ، وللدفاع عن قضاياها الوطنية والقومية ، يتطلب درجة نضوج كافية ، ليس فقط حتى لا يكون الاعلام مجرد ظل للحكومات ولتقلبات السياسة العربية وهي كثيرة ، ولكن ايضا ليكون صوتا واعيا يسعى لتحقيق المصالح الوطنية والقومية دون تعارض ، ودون انحدار ودون اسفاف ، ودون تفريط ايضا في التزاماته وواجباته الوطنية، وبالتأكيد ليس من بين ذلك التطاول على الشعوب الشقيقة ولا على الرموز السياسية لها ، وإذا كان ذلك اكثر صعوبة في الممارسة والالتزام ، خاصة في حالات احتدام الخلافات ، الا ان النضوج والمسؤولية والوعي كفيلة بمساعدة المخلصين من الإعلاميين العرب للعمل من اجل حاضر عربي افضل ، ومن اجل إبعاد الشعوب العربية وعلاقات ابنائها عن تقلبات السياسة العربية ، أو على الأقل عدم الانغماس في ذلك الى حد التخريب ، كما يحدث الآن .