الملف السياسي

مأزق الإعلام العربي.. التخمة الإعلامية تصارع أمراضها

30 أكتوبر 2017
30 أكتوبر 2017

د. صلاح أبو نار -

في معرض تحليله لتأثير الإعلام العربي علي عمليات الانتقال السياسي أعقاب 2011، كتب مارك لينش أن المجتمع العربي في أواخر العقد الأخير من القرن الجديد، حلت به حالة «تخمة إعلامية» بعد أن كان «ثقبًا إعلاميًا أسود». وتمنحنا هذه العبارة مدخلًا مناسبًا لتوصيف حالة الإعلام العربي الراهنة، فهو إعلام قد حلت به حالة من التخمة المفرطة وفي فترة قياسية، حملت معها أمراضًا وسلبيات عديدة.والأمر هنا لا يتصل بالنمو الكمي في حد ذاته فهو ليس شيئًا استثنائيًا، بل بتفاعلات النمو مع سياقاته الاجتماعية والسياسية. كما أنه لا يتعلق بكل مكونات المشهد الإعلامي، بل يتصل أساسا بمكونه السمعي والبصري وعلى الأخص الفضائي منه، ثم بمكونه السيبرانطيقي وعلى الأخص مجال التواصل الاجتماعي.

كان تأسيس قناة الجزيرة في 1996 نقطة البداية القوية لتلك التحولات الإعلامية. تولدت تحولات المشهد الإعلامي من رحم الثورة التكنولوجية بمكوناتها الاتصالية، وشكلت متغيرات الواقع السياسي قوتها المحركة. وسنجد تلك المتغيرات على مستويين. أولهما مستوى الدولة القومية. وداخله سنجد الأزمات الدافعة صوب انفراجات سياسية محسوبة، من ضمنها الانفراجة الإعلامية. ولكن لم ينحصر الأمر في الأزمات، فهناك سياسات التنمية التي يستدعي بعضها الآخر، والتي استلزمت الانفتاح الاتصالي على العالم الخارجي. وثانيهما مستوى النظامين الإقليمي والدولي. وداخله سنجد عامل التنافس والمحاكاة بين الدول، النابع من عوامل مثل قوة الدولة وهيبتها ومكانتها. ثم الصراعات والأزمات السياسية الإقليمية، التي فرضت سياسات وحروبًا إعلاميةً عابرة للحدود.

تزخر الإحصائيات بمؤشرات التخمة الإعلامية

وفقًا لمصادر مختلفة وصل عدد القنوات الفضائية عام 2004 إلى مائة قناة، ارتفع إلى 520 عام 2008، ثم 733 عام 2010، ليقفز إلى 1150 عام 2013. وهذه القنوات تتوزع بين قنوات عامة وخاصة، والأمر هنا لا يتصل بنمط ملكية القناة، بل بكونها عامة أو متخصصة. ستتفوق القنوات الخاصة، ففي 2008 كانت النسبة 390 قناة خاصة مقابل 130 قناة عامة، وفي 2010 أصبحت 709 مقابل 124 على التوالي.

والجزء الأكبر منها متاح للبث المجاني، بالمقارنة بالبث المشفر. تصل نسبة البث المجاني في السعودية إلى 86%، والكويت 77%، ولبنان 85%، وتونس 89%، والبحرين 66%، ومصر 38%، وقطر 45%.

وتذكر إحصائية أن خدمات الإنترنت عريض النطاق عام 2009، كانت في المنطقة العربية 12% من إجمالي خطوط الخدمات، وهي نسبة منخفضة حيث تصل إلى 64% في أمريكا. لكنها قريبة من أمريكا اللاتينية 20%، وأوروبا الشرقية 23%. وهكذا تتفاوت عربيًا بحدة، ففي 2009 كانت في مصر 37%، وقفزت في قطر إلى 84%.

ولكن نسبة الاشتراك العربي في خطوط الإنترنت عبر ردها لإجمالي السكان، تعتبر جيدةً بمقارنتها بالمتوسط العالمي. ففي عام 2008 كانت 24.1%، ثم ارتفعت إلى 32% عام 2012، بينما كان المتوسط العالمي 29.7% في 2008. وتشير التوقعات إلى أنه في أواخر 2017 سيصل عدد مستخدمي النت في العالم العربي إلى 197 مليونا، وهو ما يساوي نسبة 51% من السكان.

حمل هذا التوسع المتواصل معه، كثيرًا من أوجه النقص، وأيضًا الكثير من المؤثرات السلبية، سواء بالنسبة لتوسع الإعلام التلفزيوني الفضائي أو توسع إعلام المجال السيبرانطيقي.

فيما يتعلق بالإعلام الفضائي تتجسد أوجه النقص، في الخلل في مجالات الإعلام، لصالح المجال الترفيهي بمعناة الواسع. لدينا إحصائية مفصله تخص عام 2008. وفقًا لها كان عدد قنوات الموسيقى والمنوعات والأفلام 115 قناة، والدراما والمسلسلات 58، والرياضة 56. في مقابل 34 قناة للأخبار. وفي 2009 كان توزيع القنوات الفضائية المجانية: 45 دينية، 40 تفاعلية، 22 متخصصه، 22 إعلانات، 10 اقتصاد وأعمال، 10 تعليم، 4 وثائقية، 2 صحة وتغذية.

وهذا الخلل يجد وجهه الآخر في تفضيلات المشاهدين. وفقا للبيانات الواردة في تقرير «نظرة على الإعلام العربي: تحفيز المحتوى المحلي» 2010، سنجد النماذج الدالة التالية. أعربت عينة الإمارات عن نسب التفضيل التالية في مشاهداتها التلفزيونية: الأخبار 30% والترفية 24% والأفلام 17% والرياضة 13% والموسيقى 10% والدين 2%. وكانت التفضيلات المصرية: رياضة 27% وأفلام 18% وأخبار16% وترفيه 10% وموسيقى 6%. وفضل السعوديون: الأفلام 22% والأخبار 21% والترفيه 17% والرياضة 16% والموسيقى 9% والدين 7%.

ومن السهل طرح أن تحيزات الرسالة الاتصالية، في جوهرها امتداد لتحيزات تفضيلات المشاهدين. لكن هذا صحيح جزئيًا. والأصح أن تحيزات المشاهد تعمقت وتوسعت، بتأثير تحيزات الرسالة الاتصالية. فالمشاهد الذي كان فيما مضى، يشاهد قناة محلية واحدة تعرض فيلمين يوميًا، أصبح الآن تحت إغراء حزمة قنوات تعرض أفلامها على امتداد 24 ساعة متواصلة.

ويمكننا القول إن رسالة اتصالية من هذا النمط، ليس من شأنها المساهمة في بناء ذاتية متوازنة وبناءة للمواطن. فهي تساهم في تشكيل مواطن منهمك في مسراته، ومعزول في عالمه الضيق، وقليل الاهتمام بما يجري من حوله. وليس الحريص على وعي العالم، وامتلاك المعايير النقدية.

يمكننا دعوة أضرار التحيزات السابقة بالأضرار البريئة، أي الأضرار غير المخططة ، التي لا يستهدفها مخطط الرسالة الاتصالية. في الدراسات العلمية التي تناولت تجربة الفضائيات العربية، وعلى سبيل المثال دراسات مأمون فندي ومارك لينش، سنجد ما يدعم هذه الفرضية . دافعت «كأي حافظ» في دراساتها عن الفعل السياسي الإيجابي المخطط لتلك الرسالة. ولا يهمل الآخرون هذا الوجه، لكنهم يضعونه جوار الوجه السلبي. ما هي مكونات هذا الوجه؟

يركز تحليلهم على أبرز المحطات الفضائية العامة والإخبارية، وفي مقدمتها الجزيرة في سنواتها الأولى. لا تتسم تلك القنوات بالاستقلالية، فكلها تابعة لقوة إقليمية مباشرة، أو يمتلكها ويحدد حدودها السياسية من ينتمي لتلك القوى. ولهذا سنراها غارقة في مساندة التحيزات السياسية والتحالفات الإقليمية لتلك القوى.

وستنجح في التخفي في أوقات الهدوء، لكن لحظات احتدام الأزمات كما حدث في سوريا، ستجبرها على خلع الأقنعة. علاوة على هذا الولاء السياسي، هناك ولاء آخر فكري أو عقائدي أدمجها في خطوط الاستقطاب الفكري المسيطر على القوى السياسية العربية. وهكذا نراها تخوض مع تلك القوى حروب الهوية السياسية، وتساهم معها في تحطيم إمكانية صياغة إجماع سياسي وطني، وقواعد متفق عليها لإدارة الصراع السياسي. وسيجعل هذا من رسالتها الاتصالية، قوة نشطة في إعادة إنتاج عناصر دفينة، في الثقافة السياسية العربية التقليدية التي تزعم مناهضتها . ويخصص مارك لينش لسلبيات التجربة المصرية جانبا مهما من تحليله. طارحا أن الإعلام الفضائي المصري الجديد، لعب دورًا سلبيًا، عبر نشر الخوف السياسي من الخصوم، وتعميق الانقسام الإسلامي - العلماني.

إن نفس حالة الخلل في نسب المجالات الإعلامية سنجدها داخل وسائل التواصل الاجتماعي كأوعية اتصالية وإعلامية. ولكنه هنا يمتلك دلالة أعمق، لأنه نابع من خيارات إرادة ذاتية حرة، وليس من الإرادة المتفاعلة مع رسالة اتصالية مركزية.

سنجد مؤشرات مهمة داخل البيانات، الواردة في تقرير «وسائط الإعلام الاجتماعي العربي» 2015. أفاد أن 55% من العينة أنهم يستخدمونها للتواصل الاجتماعي، و12% للحصول على معلومات (الأفلام والموسيقى والأخبار)، و8% لتمضية أوقات الفراغ، و1% للخدمات.

ويورد تقرير «نظرة على الأعلام العربي» نمطين من البيانات: بيانات الأنشطة الأكثر شيوعًا عند دخول الإنترنت، وبيانات مواقع التواصل الأكثر ترددًا. وسنأخذ نموذجين مكتفين بالخيارات الأربعة الأولى. في حالة مصر كانت خيارات الأنشطة: معلومات 35%، دردشة 21%، ألعاب 10%، شبكات اجتماعية 10%. وكانت خيارات مواقع التواصل: مصراوي 29%، يلا كورة 18%، فيسبوك عربي 13%، مزيكا 11%. وفي حالة السعودية كانت تفضيلات الأنشطة: معلومات 52%، بريد 12%، ألعاب 8%، تواصل اجتماعي 7%. وكانت تفضيلاتهم لمواقع التواصل: فيسبوك عربي 82%، و19% مكتوب، و17% فيسبوك انجليزي، و8% نيتلوج.

وفي تقرير «المؤشر العربي 2015»، أفاد 20% أنهم يستخدمون الفيسبوك للتفاعل الدائم مع الأحداث السياسية، و20% أن ذلك يحدث أحيانًا، و42% بعدم استخدامه. وسنجد نسب تويتر في المصدر نفسه قريبه جدًا من نسب فيسبوك.

وحاصل ما سبق أن البعد السياسي داخل تلك الوسائط ليس مهيمنًا أو مكتسحًا. وهو ما يعني أنها وسيله ممتازة لإيجاد ترابطات اجتماعية بناءة، لكنه يعني أيضا بالتأكيد وسيلة خطرة للإلهاء الفردي، وإيجاد تحزبات اجتماعية، وصنع إجماعات وهمية حول قضايا ثانوية ومدمرة اجتماعيًا.

ولا يختلف أمر وجهها السياسي . فلقد مارست أدوارًا إيجابيةً تمامًا في سياقات وفترات معينة، وفي سياقات وفترات أخرى كانت أضرارها هائلة. تناول مارك لينش هذا الوجه السلبي في تحليله للحالة المصرية. فأشار إلى دورها في تدعيم الاستقطاب السياسي، وإيجاد إحساس دائم بوجود أزمة سياسية، ونشر الشائعات، والانتقائية المفرطة في اختيار القضايا، وإشاعة روح التحزب والانغلاق السياسي، وتفضيل التطرف على الاعتدال والتوسط، وتجاهل كل ما يتناقض مع ما تسعى لترويجه، والطابع المغلق والحلقي لحواراتها، وإيجاد إحساس وهمي بالحضور والفعل السياسي.