أفكار وآراء

بعد تحرير الرقة.. سوريا أمام 3 خيارات

28 أكتوبر 2017
28 أكتوبر 2017

د. عبدالعاطي محمد -

دون الاتفاق على أن نهاية تنظيم «داعش» في سوريا باتت قريبة أكثر من أي وقت مضى، لا يمكن الادعاء بأن الحل السياسي بات على الأبواب، وذلك بحكم التعقيدات الصعبة القائمة ليس في مواقف الأطراف الإقليمية وحدها، بل في مواقف القوى المحلية سواء على صعيد المعارضة أو التباينات بين مكونات المجتمع السوري وما ترنو إليه من توجهات استقلالية.

مؤخرا تم إعلان تحرير الرقة رسميا من جانب قوات سوريا الديمقراطية، وهي المدينة التي اتخذها «داعش» منذ 2014 عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية التي كان يسعى إلى إقامتها. ونظرا لهذا الاعتبار في ذاته تم وصف تحرير المدينة بأنه نصر تاريخي. ومع أنه تطور مهم بالفعل من المفترض أنه يلقي بتأثيره الإيجابي على مسار العملية السياسية المتعثرة منذ أكثر من 5 سنوات للحل السلمي للأزمة السورية، إلا أنه قوبل بالصمت إن لم يكن بعدم الارتياح من جانب معظم الأطراف الإقليمية المؤثرة ومن النظام السوري ذاته لأنه أعاد إلى السطح مجددا الجدل حول المستقبل السياسي للبلاد، أهو يمضي في اتجاه التقسيم أم في اتجاه الفيدرالية؟، بينما النظام السوري متمسك بوحدة البلاد الكاملة جغرافيا وسياسيا ووجود دولة واحدة مركزية.

ما صدر عن المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية في مؤتمر إعلان تحرير الرقة أشار بوضوح إلى أن تجربة تحرير المدينة تؤسس لتوجيه سوريا نحو خيار الفيدرالية ، بوصفه التصور الأمثل لشكل الحكم في المستقبل حسب رأيه . فقد ذكر المتحدث أن مدينة الرقة (عاصمة محافظة الرقة التي تعد واحدة من كبريات المحافظات السورية وتقع شرق الفرات) ستكون جزءا من سوريا الاتحادية اللامركزية، وأن مستقبل الرقة سيحدده شعبها في إطار سوريا الديمقراطية الفيدرالية التي سيتحمل فيها سكان المحافظة شؤونها الخاصة، وهكذا - والكلام للمتحدث - يتم تسليم السلطة من القوات إلى مجلس مدينة الرقة الذي سيتولى أيضا مسؤولية إعادة الإعمار، ويتوقف دور القوات عند حماية المدينة من التهديدات الخارجية.

خيار الفيدرالية ليس خيارا منبوذا ولا يشكل تهديدا بتقسيم البلاد، وليس بدعة أو شيئا طارئا ومفاجئا، لأنه خيار متبع في جميع التجارب الاتحادية في العالم وناجح إلى حد كبير، تلك التجارب التي تجد في الفيدرالية حلا آمنا وجيدا لمشكلات التباينات الجغرافية واللغوية والعرقية لشعوب قدرها أن تعيش مع بعضها البعض برغم هذه التباينات وأن تعمل مجتمعة على نهضة أنفسها ونهضة الوطن الجامع. وأبرز معالم الفيدرالية أن السلطة تنقسم دستوريا بين حكومة مركزية تسمى الحكومة الفيدرالية أو الاتحادية وبين حكومات أصغر للأقاليم أو الولايات مع اعتماد كل منهما على الآخر والاعتراف بتقاسم السلطة، ودائما ما تحتفظ الحكومة الفيدرالية بالجيش والسياسة الخارجية والقضاء الأعلى، بينما هناك حرية واسعة للأقاليم في إدارة ما هو غير ذلك. وهكذا تحافظ الأمة والدولة على تماسكها ووحدتها، وتصرف المكونات المجتمعية شؤونها الخاصة بنفسها.

ولم يكن هذا الخيار بعيدا عن كل الأطروحات التي أثيرت منذ بداية الأزمة السورية كبديل لتقسيم سوريا على خلفية حالة الانقسام التي ترتبت على اندلاع الأزمة، ولكنه وُوجِه بانتقادات جعلته خيارا صعبا إن لم يكن غير مرغوب فيه ، استنادا إلى أن التباينات المجتمعية والمذهبية والجغرافية التي طرحت مبررا لاختيار هذا الحل الفيدرالي لم تكن قوية، حيث هناك تداخل وثيق بين مكونات المجتمع السوري ومذاهبه في كل منطقة ولا توجد عوائق جغرافية تمنع التواصل بين هذه المناطق، ولم يعرف السوريون هذا الخيار منذ الاستقلال وعاشوا مجتمعا واحدا مستقرا. وفي ظل تطورات الأزمة وخضوعا لبعض ضغوطاتها، فإن النظام السوري لم يتحدث سوى عن الحكم الذاتي للأكراد في شمال سوريا فقط، وعلى سبيل الوعد أو الاستعداد للحوار بشأنه لا على سبيل الإقرار والموافقة النهائية. ولا شك أن موقف قوات سوريا الديمقراطية المؤكد على أهمية خيار الفيدرالية قد أعاد الفكرة إلى النور مجددا من منطلق فيدرالية الأمر الواقع التي تتواجد فعلا في بلدان أخرى تعاني من انقسامات داخلية وهو خيار يحدث لدواعٍ سياسية أكثر من أن تكون له أسس قانونية أو دستورية. وحالة الرقة نموذج لذلك الوضع .صحيح أن البلاد في مرحلة انتقالية ولا تتضمن هذه الأسس، ولكن هذا هدف يجري العمل على تحقيقه بتضمينه في الدستور الجديد أي في آخر خطوات التحول إن سارت الأمور في اتجاه التحول بالفعل. ويعزز ذلك أن الولايات المتحدة وراء النجاح الذي حققته قوات سوريا الديمقراطية وترى في توجهات هذه القوات التصور المناسب لمستقبل سوريا السياسي، لنا أن نتذكر أن هذه القوات التي يشار لها باختصار «قسد» عبارة عن تحالف تم تشكيله في عام 2015 من ميليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمينية وتركمانية، وتعد وحدات حماية الشعب الكردية عصب هذا القوات. وهذا التنوع داخل كيان موحد يعد حجة قوية في يد المطالبين بالفيدرالية.

ولكن بالمقابل فإن النظام السوري من جهة وأطراف إقليمية وروسيا من جهة أخرى يرون في مطالبة قوات سوريا الديمقراطية بالفيدرالية مؤشرا على تقسيم البلاد لا على توحيدها. ومن وجهة نظرهم أن تطورا كهذا برغم أهميته إلا أن مضمون دعوته جاء متزامنا مع تمكن النظام من استعادة أجزاء كبيرة من تنظيم «داعش» ودخل مدينة دير الزور وكذلك مدينة الميادين بما يعنى أنه في موقف أفضل كثيرا من الناحية الاستراتيجية عما كان عليه قبل سنوات، أي أنه يعزز بذلك تمسكه بوحدة البلاد سياسيا ولا يقبل بخيارات أخرى غير الحكم المركزي، ولذلك ترددت الأنباء بأن الجيش السوري ربما تكون معركته المقبلة مع قوات سوريا الديمقراطية!.

كما أن ثقل المكون الكردي في هذه القوات أقلق الجيران كثيرا ، ناهيك عن الدور الأمريكي في المستجدات على خلفية تحرير الرقة، فقد حدث التحرير بينما لا يوجد توافق بين كل من روسيا والولايات المتحدة بالنسبة لتطورات تقدم قوات النظام السوري المدعومة بالطبع من موسكو، ووقعت مشادات بين الطرفين على خلفية اتهام موسكو لواشنطن بأنها تغاضت عن هجمات شنتها قوات سوريا الديمقراطية على قوات النظام خلال اقتحامها لدير الزور. كما تزامن تحرير الرقة مع قلق روسيا من أن تتحول مناطق خفض التصعيد التي تشكلت في الشهور القليلة الأخيرة في عدة مناطق توتر سورية إلى أمر واقع بالانفصال أو التقسيم!، وهذا ما عبر عنه الرئيس الروسي نفسه خلال مشاركته في منتدى «فالداي» الدولي للحوار. وقياسا على ما حدث في الرقة ليس من المستبعد أن تتحرك مدن ومناطق سورية أخرى لتعزيز الدفع بتفعيل الحل الفيدرالي كأمر واقع، حيث الظروف متشابهة كثيرا ولا تختلف إلا بالنسبة للقوى المحلية المتحكمة في إدارة الأوضاع هنا أو هناك.

هكذا مثلما هناك مؤشرات تدفع في اتجاه الحل الفيدرالي، هناك مؤشرات مضادة تدفع في اتجاه التقسيم. هنا أضاف الرئيس بوتين مخرجا جديدا للأزمة خصوصا أنه أرفقه بعدم ارتياحه لتعثر الحوار بين النظام والمعارضة، وذلك عندما قال في المنتدى المذكور إن هناك فكرة لحل الأزمة السورية مؤداها «تأسيس كونجرس شعوب سوريا» تشارك فيه كل المجموعات العرقية والدينية والحكومة والمعارضة. ومع أنه لم يوضح الهدف من هذه الفكرة الجديدة إلا أنها على ما يبدو تسعى إلى التوصل للأسس التي تقبل بها كل هذه الأطراف باعتبارها تمثل تصور الشارع السوري بكل أطيافه، على أن يأخذ الدستور الجديد بهذا التصور. هذا الخيار الثالث يتجاوز بالطبع خياري التقسيم والفيدرالية وينقل القضية إلى سياق مختلف تماما ظاهره الوقوف عند إرادة الشعب السوري والاحتكام إليها (هذا في حالة تمكن بوتين من تفعيل هذه الفكرة)، ولكن حقيقته هي إعادة إنتاج النظام السوري، أو بالأحرى تطويره دون هدمه (كما كانت تريد المعارضة السورية). وربما وجد بوتين ترحيبا ضمنيا من أطراف إقليمية ودولية أخرى، وإلا ما كان قد غامر بالحديث عنها، وربما أيضا أراد منها تحويل الأنظار عن خياري التقسيم والفيدرالية.

هكذا تنقلنا الأزمة السورية من عقدة إلى أخرى دون أن تتضح معالم فك أي منها، بما يعني أنه مقدر لها أن تطول وتزداد تعقيدا.