أفكار وآراء

السياسة تلقي بظلالها على اقتصاد العالم

27 أكتوبر 2017
27 أكتوبر 2017

مارتن وولف – الفاينانشال تايمز -

ترجمة: قاسم مكي -

تفاؤل مشوب بالخوف. هذا هو الجو السائد في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي عقدت هذا الشهر بالعاصمة الأمريكية واشنطن، قلب النظام الاقتصادي الليبرالي العالمي لأكثر من 70 عاما. رغما عن ذلك ترى إدارة ترامب في هذا النجاح العظيم مؤامرة ضد أمريكا. فغيوم السياسة تنشر الآن ظلالا قاتمة على اقتصاد مُشرِق. لقد تعرض الاقتصاد الأمريكي لثلاث صدمات متتالية خلال العقد الماضي هي الأزمة المالية (2007-2008) وأزمة منطقة اليورو (2010-2013) وانهيار أسعار السلع (2014-2015). ولكن كل شيء هادئ الآن. وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي هنالك ستة اقتصادات (بلدان) فقط لن تحقق نموا في عام 2008 من جملة 192 اقتصادا تناولها التقرير. ويتوقع الصندوق أن يصل معدل النمو العالمي إلى 3.6% (بالقوة الشرائية) هذا العام و3.7% في عام 2018م. إنها نسب جيدة مقارنة بنسبة 3.2% البائسة التي سجلت في عام 2016. ويبدو مستقبل الاقتصادات الهامة ذات الدخل المرتفع أفضل الآن من حالها في أبريل فيما عدا اقتصادي الولايات المتحدة وبريطانيا التي تأثرت بقرار التخلي عن عضوية الاتحاد الأوروبي. (اقتصاد أو بلد الدخل المرتفع، بحسب البنك الدولي، هو البلد الذي كان يبلغ نصيب الفرد من دخله القومي الإجمالي 12236 دولارا أو أكثر في عام 2016 –المترجم.)، ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 2.1% هذا العام و1.9% في عام 2018 . وهي نسب قريبة من تلك التي يتوقع أن يحققها اقتصاد الولايات المتحدة (2.2% هذا العام و2.3% العام القادم.) ذلك رغم أن اقتصاد بريطانيا سينمو (حسب التوقعات المعقولة جدا) بنسبة 1.7% فقط خلال هذا العام ثم بنسبة 1.5% في العام القادم. حقا تظل دواعي القلق ماثلة. وربما أن هذا القلق شيء جيد. فالإحساس الطاغي بالبهجة كثيرا ما اتضح أنه نذير بأزمات قادمة. كذلك فالمخاطر المالية واضحة في العديد من بلدان الدخل المرتفع وفي الصين. ومستويات الدين عموما مرتفعة بالمقاييس التاريخية وكذلك السخاء الذي تُسَعَّر به الأصول في بعض الحالات. فتقييم الأسهم الأمريكية ليس بعيدا عن الذرا التاريخية التي وصلت إليها هذه الأسهم في عام 1929 وعام 2000. وعلى نفس القدر من الأهمية اقتصاديا وسياسيا يظل النمو في بلدان الدخول العالية ضعيفا من الناحية الهيكلية. فنمو الإنتاجية يترنح وأسواق العمل تشهد نمو بطيئا في الأجور والدخول المتاحة للإنفاق. كذلك تنخفض نِسب التوظيف في بعض الحالات وخصوصا في الولايات المتحدة قياسا بالماضي. إلى ذلك واصلت اقتصادات بلدان الدخول المرتفعة تعافيها من الانكماش العظيم (2008) إلا أن آثاره لا تزال باقية معها إلى حد كبير. ولو كان النمو قد استمر بنفس معدلاته السابقة للأزمة لكان حجم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الكلي لبلدان الدخل المرتفع أقل بحوالي السُّدس. ورغما عن ذلك قد تكون الآثار السياسية للانكماش أهم بكثير. فالأزمة وآثارها المتبقية قضت على الثقة في النخَب. وجاءت هذه الصدمة بعد حشد من التحولات الاجتماعية والاقتصادية غير المريحة. وفي حال أخذنا هذه الاضطرابات مجتمعة سنجد أنها مثلما تكرر كثيرا في الماضي فتحت الطريق للديماجوجيين (المهرجين السياسيين) الذين يَعِدُون بحلول بسيطة لمشاكل معقدة. لقد حدث هذا في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيث تم إغراء أغلبية بسيطة على اختيار رحلة الى المجهول. كما حدث هذا في كاتالونيا التي دُفِعَت إلى رحلة نحو الاستقلال ربما تكون مهلكة. كما حدث في الولايات المتحدة حيث تظل دلالات انتخاب دونالد ترامب بنفس غموضها في يوم تنصيبه. ومن المحتم أن التحول في سياسة الولايات المتحدة هو المصدر الأعظم للقلق. ربما أن هذا التحول حتى الآن لا يزيد كثيرا عن كونه «ضجيج بلا طحن»، ولكن من المبكر جدا القول إننا على ثقة من أنه كذلك. إذ يبدو أن الإدارة الأمريكية عازمة على إجراء تخفيضات ضريبية واسعة فيما يشهد اقتصادها «توظيفا» شبه كامل. وهي توحي أن ذلك سيؤدي بطريقة ما إلى ارتفاع ضخم في وتيرة النمو. هذا ليس مستحيلا، ولكنه مستبعد جدا. فالأرجح أن يحدث ارتفاع في التضخم وارتفاع حاد في أسعار الفائدة وفي قيمة الدولار وزيادة كبيرة في عجز الحساب الجاري. في الأثناء تعتزم الإدارة الأمريكية السعي وراء الهدف المعاكس والمتمثل في خفض العجز الخارجي من خلال سلسلة من المفاوضات بداية باتفاقية النافتا. إن تصحيح عجز الحساب الجاري من خلال مفاوضات تجارية ثنائية ليس فقط هدفا غير متماسك فكريا، ولكنه يصطدم مباشرة بسياساتها المالية. قد يكون ذلك هراء، ولكن من الممكن أن يقود إلى تفكك تراكمي للنظام التجاري الدولي. وربما أن اختيار الرئيس القادم لبنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي سيكون بذات القدر من الأهمية. لقد تعلمنا مرات عديدة ما يترتب عن هذا الاختيار من أثر ضخم ليس فقط في تشكيل اقتصاد الولايات المتحدة ولكن اقتصادات العالم. إنه منصب يمكن أن يُحدِث به الشخص غير المناسب قدرا هائلا من الدمار. وبخلاف ذلك هنالك الخشية من الصراع العالمي. فما يشكل دلالة عظيمة في الأجل الطويل رفض الرئيس الأمريكي الشهادة بالتزام إيران بالاتفاق النووي دون أن يدعم موقفه هذا بأدلة. إذ من شأن ذلك تقديم بيان عملي بأن الاتفاق مع الولايات المتحدة لا يعني شيئا. وبنفس القدر من الخطورة سيكون شن هجوم (أمريكي) على كوريا الشمالية التي من المؤكد تقريبا (أن ترد) بتدمير كوريا الجنوبية، الحليف الهام للولايات المتحدة. وسيثبت ذلك لحلفاء أمريكا الآخرين أنهم أيضا يمكن الاستغناء عنهم. وربما مع تحسن الاقتصادات سيختفي الغضب الذي قاد إلى الصعود المفاجئ للشعبوية. ولكن المسألة هي إذا اتضح أن مثل هذا التعافي السياسي قد جاء بعد فوات الأوان. فثمة قدر كبير من عدم اليقين في الوقت الراهن. وقد يقود المدُّ الديماجوجي إلى لا شيء. هذه المخاطر حتما ألقت بظلالها على محادثات صندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن. لكن الأسواق تتجاهلها في سرور. وربما هي مخطئة في ذلك.