صحافة

الوزير اليهودي المُنصف الذي عارض وعد بلفور

27 أكتوبر 2017
27 أكتوبر 2017

في زاوية آراء كتب الدكتور خالد الحروب مقالا بعنوان: الوزير اليهودي المُنصف الذي عارض وعد بلفور، جاء فيه:

«إن مجرد رغبات 700000 عربي (في فلسطين) لا أهمية لها بالمقارنة مع مصير حركة استعمارية أوروبية في جوهرها (أي الصهيونية)». هذا بعض مما قاله وزير الخارجية البريطاني جميس آرثر بلفور في معرض دفاعه عن الوثيقة المشؤومة التي أصدرها سنة 1917 وحملت اسمه، وجسدت العنصرية البريطانية الأوروبية الاستعمارية بأبشع صورها. عكس «وعد بلفور» المزاج والثقافة السياسية الاستعلائية السائدة آنذاك، سواء في لندن أم بقية العواصم الأوروبية تجاه «المستعمرات وشعوبها». على الضد من هذا النفس الاستعماري الكريه كان ثمة أصوات نادرة التزمت بقيم ومبادئ ونظرة أخرى مغايرة، لكنها بقيت مع الأسف في الظل ولم يكن لها تأثير في صلب السياسة البريطانية، ولم تتمكن من إيقاف حركة تهويد فلسطين. وعلى رأس هذه الأصوات النادرة يقف إدوين صامويل مونتاغو الوزير في الحكومة البريطانية لشؤون الهند، بين سنوات 1917 و1922، وهو الذي كان الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة. مونتاغو اعتبر الصهيونية حركة لاسامية وسوف تقود إلى دمار اليهود، وتمت محاربته من قبل حاييم وايزمان والقادة الصهاينة في بريطانيا وأوروبا في تلك المرحلة، وهم الذين كانوا يعملون بلا هوادة لانتزاع ذلك الوعد المشؤوم من بريطانيا ويحشدون الدعم الأوروبي والأمريكي له. كتب مونتاغو يصف الصهيونية ومشروعها كالتالي: «لطالما بدت الصهيونية لي عقيدة سياسية خبيثة، يتعذر الدفاع عنها من قبل أي مواطن غيور. ولطالما كنت مُقتنعاً بأن هؤلاء الذين انخرطوا في هذه العقيدة (الصهيونية) قد دفعوا إلى ذلك بسبب الحرمان من الحرية والقيود التي فرضت على اليهود في روسيا. لكن في ذات الوقت الذي اعترف فيه باليهود كيهود روس ومنحوا كل الحريات، فإنه يبدو من غير المعقول أن يتم الاعتراف بالصهيونية من قبل الحكومة البريطانية، وأن يقوم بلفور بالتصريح بأن فلسطين يجب أن تكون وطناً قومياً للشعب اليهودي».

بعد أقل من أسبوعين من اليوم وتحديداً في الثاني من شهر (نوفمبر) تكون قد مرت على تصريح بلفور مائة سنة بالتمام. سيظل هذا التصريح محطة سوداء في تاريخ الكولونيالية البريطانية وما تناسل عنها من جريمة بحق الشعب الفلسطيني والمنطقة برمتها، حيث رُحلت إليها المسألة اليهودية التي ولدتها العنصريات واللاساميات الأوروبية الدفينة والظاهرة. توسطت سنة إصدار وعد بلفور، أي 1917، فترة الحرب العالمية الأولى التي استعرت فيها التحالفات السياسية والعسكرية والصفقات السرية والعلنية والمعاهدات الدائمة أو تلك الخادعة وإلى جانبها الوعود التي تنثرها الدول الكبرى على الأطراف المتنافسة أو الطامحة بأمل كسبها إلى جانبها في الحرب. لعبت الصدف وتقاطعات المصالح المختلفة لمنفعة الحركة الصهيونية بشكل مُذهل. إستراتيجياً كانت بريطانيا تريد الحفاظ على فلسطين في أيديها إما مباشرة أو عبر إيداعها في عهدة الحركة الصهيونية المتحالفة معها، قطعاً للطريق على فرنسا وإبقاء للأخيرة بعيدة عن قناة السويس، وخداعاً لها عبر السيطرة على فلسطين رغم غموض وضعها في اتفاقية سايكس بيكو التقسيمية سنة 1916.

دينياً، التقت فكرة عودة اليهود إلى فلسطين المُتجسدة في وعد بلفور مع المسيحانية الأخروية التي تشترط الظهور الثاني للمسيح بتلك العودة، وبذلك ضمت الصهيونية شرائح عريضة مؤيدة في أوساط ما صار يُعرف بالمسيحية الصهيونية. وتحالفياً، بدت فكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين مُعززة للتحالف الروسي البريطاني الذي بدا على وشك التفكك بعد الثورة البلشفية لجهة إرضاء متنفذي اليهود وضمان ضغطهم على الحكومة الروسية الجديدة للبقاء في الحرب إلى جانب الحلفاء، ومن ناحية أخرى يضمن ذلك الوعد دعم اليهود الأمريكيين في واشنطن ومضاعفة جهودهم لجر الولايات المتحدة للانخراط في الحرب إلى جانب بريطانيا وحلفائها. أما انتدابياً ودولياً، فقد عملت بريطانيا بسرعة هائلة على تحويل تصريح بلفور إلى وثيقة قانونية في السنوات الأولى لـ«الانتداب»، ومررت فكرة إقامة وطن قومي لليهود عبر عصبة الأمم، بحيث أصبحت الوظيفة الأساسية المُنوط بها الانتداب البريطاني على فلسطين تسهيل قيام وطن قومي ودولة يهودية في فلسطين. وسط في كل هذا الجنون الدولي الذي توافق على جريمة تدمير شعب فلسطين وسرقة أرضه ومنحها ليهود العالم كان الغائب الأكبر هو ذلك الشعب ومن يمثله ومن كان يزعم الدفاع عنه من حكومات وقادة عرب. سادت لغة المصالح الإستراتيجية والوعود الخادعة والكذب حتى لو أدى ذلك إلى سحق شعوب وخراب أوطان.

على الضد من الانحطاط الأخلاقي والسياسي الذي مهد الأجواء لتصريح بلفور وأنتجه وصنعه ارتفع صوت مونتاغو المنفرد وارتفعت نبرته واعترض على الجريمة التاريخية قيد التصنيع. مونتاغو كان معروفاً بليبراليته القاطعة ومعاداته الواضحة للصهيونية رغم التزامه الطقوسي باليهودية. وكان يرى في الصهيونية حركة تخريبية ومؤذية لليهود واليهودية وتعمل على تدمير مشروع إندماج اليهود في أوروبا والمجتمعات القومية التي ينتمون إليها ويحب أن تتعزز مواطنتهم فيها. كما وصف السياسة البريطانية باللاسامية بسبب تأييدها قيام وطن قومي لليهود في فلسطين يُرحلون إليه من البلدان الأوروبية والعالم أجمع؛ لأن هذه الفكرة بحسب ما شرح تعني إقامة غيتو يهودي كبير في فلسطين على حساب أهلها الأصليين وسوف يتسبب في تعزيز العداء لليهود في العالم.

في 23 أغسطس سنة 1917 كتب مونتاغو مذكرة شهيرة من عدة صفحات إلى الحكومة البريطانية بعنوان «حول لاسامية الحكومة الحالية» انتقد فيها سياسة الحكومة المؤيدة لفكرة إقامة وطن لليهود في فلسطين، وانتقد سياسة وتوجهات وزير الخارجية آنذاك جميس بلفور. وتستحق هذه الوثيقة بالغة العمق المزيد من الاهتمام لأنها تقدم أهم إدانة تاريخية ومبدئية للموقف البريطاني الاستعماري إزاء فلسطين وتخليق دولة يهودية فيها. وتالياً بعض الفقرات من الوثيقة:

« ... لا أعرف ماذا يتضمن هذا (الوطن القومي لليهود في فلسطين)، لكنني أفترض أنه يتطلب من المحمديين (المسلمين) والمسيحيين التنحي جانباً وإفساح المجال لليهود الذين سوف يخلفونهم في كل المواقع ويتميزون بعلاقتهم في فلسطين كما يتميز الإنكليز في علاقتهم مع إنكلترا، أو الفرنسيين مع فرنسا، ويُعامِل الأتراك والمحمديون الآخرين كأجانب في فلسطين بنفس الطريقة التي يعامل فيها اليهود في كل البلدان الأخرى ما عدا فلسطين. وربما سوف تُمنح المواطنة تبعاً لاعتبارات دينية. وإنني أشدد هنا على أربعة مبادئ:

ــ أؤكد أنه ليس هناك شعب يهودي (Jewish nation) ... لا يمكن القول: إن اليهودي الإنجليزي واليهودي الموريسيكي (الإسباني) ينتميان إلى نفس الشعب إلا إذا قلنا: إن المسيحي الإنجليزي والمسيحي الفرنسي ينتميان إلى نفس الشعب ...

ــ عندما يُقال لليهود: إن فلسطين هي وطنهم القومي فإن كل بلد (في العالم) سوف يرغب على الفور في التخلص من مواطنيه اليهود، وسوف تجد في فلسطين مجموعة سكانية تطرد السكان الحاليين وتأخذ أفضل ما في البلد (فلسطين...)

ــ إنني أنفي فكرة أن فلسطين مرتبطة اليوم باليهود أو اعتبارها المكان الملائم لهم للعيش فيها. إن الوصايا العشر تنزلت على اليهود في سيناء. صحيح أن فلسطين تلعب دوراً كبيراً في التاريخ اليهودي لكنها تلعب ذات الدور في التاريخ الحديث للمحمديين، وبعد زمن اليهود في فلسطين فإنها تلعب دوراً في التاريخ المسيحي كما لا يلعبه أي بلد من البلدان ...

ــ (بعد حديث عن النجاح النسبي والتدريجي في اندماج اليهود في أوروبا كمواطنين في دولها يتابع مونتاغو قائلاً: ... لكن عندما يمتلك اليهودي وطناً قومياً فإن ما يترتب على ذلك هو مبررات حرماننا (كيهود) من حقوق المواطنة البريطانية سوف تزيد. فلسطين ستصبح الغيتو العالمي (لليهود). لماذا يمنح الروسي اليهودي حقوقاً كاملة، ووطنه القومي هو فلسطين؟.

ثم يختم مونتاغو مذكرته بمناشدة الحكومة عدم الخضوع لضغوط الحركة الصهيونية، ويقول: «إنني أشعر بأن الحكومة يُطلب منها أن تكون أداة لتنفيذ رغبات حركة صهيونية تدار بشكل عام، وحسب معلوماتي، عبر رجال من أصول أو أماكن ميلاد معادية، وهذا يعني توجيه ضربة قوية إلى الحريات، والموقع، وفرص الخدمة لليهود الآخرين المواطنين في بلدانهم. إنني أقول للورد روتشيلد: إن الحكومة مستعدة للقيام بكل ما في طاقتها من أجل تأمين الحرية الكاملة لليهود للاستيطان والحياة في فلسطين على قدم المساواة مع سكان ذلك البلد الذي يتبعون لأديان أخرى. ولكني أطلب من الحكومة ألا تقوم بما هو أبعد من ذلك».