المنوعات

كتــاب لباحــث أردني يفكّــك مسائــل الخــلاف النحـــوي

27 أكتوبر 2017
27 أكتوبر 2017

عمّان-«العمانية»: يبني د.حسن الملخ مشروعه العلميّ الذي يتضمنه كتاب «العقل النحوي.. دراسة تفكيكية في مسائل الخلاف النحوي» الصادر عن دار عالم الكتب الحديث في إربد (الأردن)، على رؤيةٍ معرفيّة قارّة في فلسفةِ أيِّ عِلمٍ، تستجيبُ بِصيغةٍ جَمْعيّةٍ لفكرة أنّ الذين يعملون في مجالٍ معرفيٍّ ما يجمعُ بينهم ذلك المجالُ المعرفيّ، وإن تفاوَتوا في درجةِ تمثّل تلك المعرفة، والمشاركةِ في بنائها، وتطوّرها، ونشرها، وتعليمها، والدِّفاع عنها، وإعادة تحديث خطابها، وأسلوب التعبير عنها، وتبيين حدود علاقاتها مع العلوم والمعارف والثقافات في مجتمع المعرفة الأكبر؛ لتجديد تفاعُلها الإيجابيّ مع الآخر، ولاستمرار قيامِها بأداء رسالة وجودها المعرفيّ».

وبحسب الملخ، هذا يُفضي إلى أنَّ المشتغلين في مجالٍ معرفيٍّ محدَّد من العلوم أو الفنون أو الثقافات يجمعُ بينهم إدراكٌ ذِهنيّ عقليّ على نَحْوٍ ما لعمَلِهم، يجعلُ منهم أُمةً معرفيّةً ذاتَ هُويّةٍ مميّزة واضحة بعلامات فارقة، لها رسالتُها التي يبذلُ أفرادها أقصى الوُسْع في القيام بها على وجهٍ حسَنٍ منسجمٍ مع مبادئها، ومستجيبٍ في الوقت نفسِه لروح العصر في الزمان والمكان والأدوات والإجراءات. وهذا الإدراكُ الذِّهني الكُلّيّ كما يوضح الملخ، هو العقلُ الذي يُنجزُ على ضَوئه المشتغلون في العلم معرفتَهم؛ ليُصبح ثُلاثيّ الأبعاد: بُعد الذات أو الماهيّة الذي يتمثّل في نظريّة العلم ومنهجه. وبُعد الإنسان المتخصّص الذي يعمل في ذلك العلم. وبُعد الإنجاز الذي يتمثّل بالمنجَز العلميّ على مستوى التقنينات والأحكام والمسائل والتطبيقات.

فالعقلُ النحويّ في ماهيّته «نظامٌ من التصوّرات النظريّة المنهجيّة التي اتفقَ عليها النحاةُ، وإن اختلفوا في درجة تمثّلها أو تطبيقها في أعمالِهم النحويّة والصرفيّة»؛ ونظام التصوّرات في العربيّة وفقًا للملخ،ـ يقوم على نظريّتين جامعتين، هما: نظريّة النقل، ونظريّة العقل؛ لهذا كان من مقاصد مشروعه الذي تضمنه كتابه هذا، تجليةُ هاتين النظريّتين بعيدًا عن الوقوع في فخّ الزمان أو المكان أو الشخص، وتقديمُ كلٍّ منهما صافية من الشوائب التي علقت بها في مسيرتها التاريخيّة وعلاقاتها الثقافيّة، كما أنَّ العقل النحويّ في المشتغلين على هَديه يظهرُ في طائفة علميّة خاصّة هي طائفة النحاة التي تبدو أُمّة معرفيّة واضحة المعالم والحدود والسمات في الحياة الثقافيّة للغة العربيّة في الإسلام، ويبقى من العقل النحويّ البحث في المنجَز نفسِه الذي يتمثّل في التراث النحويّ وامتداده حتى العصر الحديث.

ويدرس الملخ نظريّة النحو، وشخصيّة النحاة، والنحو نفسه بمنهج علميّ يستدعي تاريخَ النحو وحياةَ النحاة، ويسبرُ النحوَ ومسائله وقضاياه، بتقديم الحديث عن الإنسان النحويّ؛ لأنَّه مُنتِجُ المعرفة النحويّة، ثم يشرح منازل الأنموذج النحويّ، وبعد ذلك ينتقل إلى تجليةِ الممارسة التطبيقيّة في تحويل الأنموذج النظريّ إلى ممارسة تقنينيّة وتطبيقيّة وعمَليّة.

ويقول الملخ إن سؤالًا منهجيًّا فرَضَ حضوره على العمل قبل الشروع فيه، مفادُه أنَّ فحصَ العقل النحويّ بأبعاده الثلاثة يستدعي تخيّر مادة نحويّة يظهر فيها هذا العقلُ على أوضح ما يكون في الإعلان عن نفسه، فكانت ظاهرةُ الخلاف النحويّ مفتاحَ مشروع العقل النحويّ، وكان أبو البركات الأنباريّ في كتابه الخالد «الإنصاف في مسائل الخلاف» خيرَ منطلق لتفكيك العقل النحويّ في العربيّة؛ ليظهر العقلُ النحويّ واضِحًا في تقاسيمه كلّها، فيسهل رسمُ معالم الذات، وتحديد الأدواء، واقتراح الدواء، الأمر الذي جعل المشروع في أربعة أبوابٍ، في كلّ بابٍ منها فصلان مترادِفان.

وبدا البابُ الأوّل كالمقدّمة الصغرى التي لا تنفصل عن مكوّنات القضيّة البحثيّة في الحديث عن أبي البركات الأنباريّ: شخصيّته وكتابه «الإنصاف»، وأطلق الباحث في الفصل الأول منه على أبي البركات الأنباريّ لقبَ «حفيد النحاة» بعدَ أن ساقَ لنفسِه نسبًا علميًّا وصلَه بالنحويّ الأوّل، فدرس شخصيّته بمنهج تاريخيّ يستعين بالمنهجين: الاجتماعيّ والنفسيّ، بصفته مثالًا على بناء الشخصيّة النحويّة في التاريخ العربيّ الإسلاميّ من الأخذ العلميّ إلى التفاعل المعرفيّ، ثم الإضافة العلميّة الأصيلة مع ما في شخصيّته من موقف تجاه مجتمعه وأفكاره وأحواله منذ أن ظهرت عليه أمارات النبوغ إلى أن غادر الدنيا، وما غادَر تاريخَ النحو العربيّ.

وجعل الملخ الفصل الثاني بعنوان «كتاب الإنصاف.. أُمّة في كتاب»، مبيّنًا فَرادة هذا الكتاب، وأهميّته، وعناية الباحثين المحدَثين: مستشرقين وعربًا به، في مُلابسات إعادة تلقّيه في العصر الحديث، ثمّ شرح خطبته، ووضح منهج التقاضي النحويّ فيه.

وكان الباب الثاني بعنوان «عالَمِ النحاة»، وتحدّث الباحث في الفصل الأوّل منه عن النحاة المتخالفين في كتاب سيبويه بدراسة العلاقات العلميّة وغير العلميّة بين كلّ متعاصِرَين أو أكثر من النحاة الواردة أسماؤهم في كتاب «الإنصاف» دراسةً ثقافيّة، كشَفَتْ أنَّ الخِلاف النحويّ -في وجهٍ من وجوهه- كانَ صِراعًا على المكتسبات الوظيفيّة والمنافع الحياتيّة، ولم يكنْ في جَوهره خلافًا علميًّا بين مذاهبَ تتباين، أو رؤى تتعارض. وهؤلاء النحاة في كتاب الإنصاف يختصرون في علاقاتهم المتشابكة تاريخ النحو العربيّ كلّه بما رافَقه أو أثّر فيه من المعارف والعلوم والثقافات والآراء والاتجاهات.

وفي الفصل الثاني من هذا الباب؛ بدأ الانفصالُ المؤقّت عن كتاب «الإنصاف» بالحديث عن ظاهرة التفاوت العقليّ في الإدراك بين النحاة انطلاقًا من أنَّ النحاةَ أطِبّاءُ الجسدِ اللغويّ، وإن اندَسَّ بينهم من ليسَ نحويًّا حصيفًا مُدقّقًا، فعرضَ الفصلُ مفهومَ العقل النحويّ، وأزمته من المنهج إلى التاريخ، ومظاهر القصور فيه بصفته عقل بشر، لا يصِلُ إلى الكمال على مستوى النظريّة والتطبيق، فتمثّلتْ مظاهر القصور في عدم الاتفاق على مدلول بعض المصطلحات التأسيسيّة، منها القصور في فهم مصطلح علامة الإعراب، والعامل إلى حدِّ الإعلان عن حمولة تاريخيّة زائدة من الخلل في فهم هذين المصطلحين، كما تمثّلت في عدم الاتفاق على دلالة علامات تصنيف الكلمة، وتمثلت في إطلاق التخريج الإعرابيّ، ومعضلة لغة الشعر، والشاذ، وعُقدة الاشتقاق، وأدلة تاريخ العربيّة، والعناد العلميّ.

وكان الباب الثالث في جوهر العقل النحويّ عندما انفتح على فصلين يمثلان جناحَي البُراق النحويّ. أمّا الأوّل منهما فكان بعنوان: «نظريّة النقل» انفتح فيه القَول على فحص عصر الاحتجاج اللغويّ بين بداية تبيّنَ أنَّها مفتوحة، ونهاية ظهرَ أنَّها غير مغلقة، أعلنَ عنها بوضوح اختلافُ النحاة في شعر المتنبيّ واسطة القرن الرابع للهجرة، ثمّ كان الحديثُ عن مادّة الاحتجاج بتأكيد التقنيات المنهجيّة في تراتُبها عند الاحتجاج، وتوضيح فلسفة الجدل بين الحاضرة والبادية على مستوى المكان، وقبائل الاحتجاج على ما شاع عن الفارابيّ في تحديده الواهم الواهي لتلك القبائل، مع وقفة ضروريّة لتجلية القول في مأزق الاحتجاج بالحديث النبويّ الشريف، ومأزق جهل القائل، ومعضلة تعدّد الروايات، ثم استحضار الحديث الغائب عن التغيّر النحويّ بالحديث عن أهميّة الفصيح الجديد بعد عصر الاحتجاج.

أمّا الفصل الثاني من «جوهر العقل النحويّ» فكان لنظريّة العقل التي تمثّل الوجه المحايد للزمن في النظريّة النحويّة العربيّة؛ لأنَّ النحو العربيّ عالَمٌ من القياس، يقوم فيه القياسُ بملء الفراغات اللغويّة، ويتدرّج بحسب العلاقات بين المقيس والمقيس عليه، لكنَّه لا يصدر أحكامًا قطعيّة في ظاهرة الاستعمال بين النشاط والخمول، بل يُشذِّذ المقيس في مرحلة ما، وقد يقيِّسه في أخرى على ما في العربيّة من تمثّلات لغويّة، مع بسط الحديث عن القياس على اللغات غير العربيّة.

وقد استدعى هذا الفصل أن يتجاوز الباحثُ الموروثَ الخجول في إجراء عملية القياس للإعلان عن حقيقة القياس وعناصره وإجرائه؛ ذلك أنَّ القياس الشكليّ اقتران من جهة، وافتراق من أخرى؛ لهذا كانت العلل في تعدّدها تشير إلى رتبة القياس في الموافقة، وفي اختلافِها تشير إلى رُتبته من المخالفة، فاستقام للباحث تصوّر جديد للقياس الشكليّ وإجرائه في النحو العربيّ.

وجاء الباب الرابع ليدرس العقل النحويّ في منازل الواقع في الاستعمال والممارسة التاريخيّة في الإجراء منطلِقًا من ضرورة تجاوز الأساطير الثلاث: أسطورة الإبداع العربيّ الذي يُظنُّ أنَّه لا يتكرّر، وأسطورة تاريخ النحو، وأسطورة الإيمان بالنحو الكامل؛ فكانَ الفصل الأوّل عن «أدواء العقل النحويّ»، وهو فصل نقديّ، عرض لما ابتُلي به النحو العربيّ من أدواء تمثّلت في: عدم وضوح مقاصديّة النحو، والاستقلال المعرفيّ المنقوص، والخوف من الأصوات المرتفعة، والوقوع في فخّ التعليميّة، والمذهبيّة، والاتباعيّة المفرطة، واضطراب مبدأ التخصصيّة، وتأجيل الأحكام القطعيّة، والتمسّك بالزبَد النحويّ، واختلال التمويل البحثيّ، والخَجَل الاجتهاديّ.

ووفقًا للملخ، فإن دواء هذه الأدواء التي استهلكت الفصل إنَّما يكون بتجاوزها، وبالتخلص منها باستعادة العمل النحويّ في ضَوء مقاصد النحو العربيّ.