1142224
1142224
إشراقات

مساعد المفتي: حينما نظن أن الفقه يقتصر على بيان الأحكام الشرعية عند الطلب يتأخر دور الفقهاء

26 أكتوبر 2017
26 أكتوبر 2017

من بين وظائفه تمكين المسلمين مما يحتاجون إليه مستقبلا -

«الفقه الإسلامي تجديد الحياة أم تبرير الواقع 1»:-

متابعة: سيف بن سالم الفضيلي -

أكد فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أنه حينما أصاب فهمنا للفقه الإسلامي خلل فحصرناه في وجوه معينة وفي زاوية ضيقة من زوايا هذه الحياة وهي زاوية الأحوال الشخصية وجوانب العبادات «الشعائر التعبدية» فإن ذلك أفضى إلى نتائج وخيمة. وحينما نظن أن الفقه الإسلامي يقتصر على الفتوى على بيان الأحكام الشرعية عند الطلب، سواء كان الطلب بلسان الحال أو بلسان المقال، بلسان المقال حينما يسأل الناس عن نوازلهم عن مستجدات أو بلسان الحال حينما يتداعى الفقهاء والمجامع الفقهية اليوم للنظر في الأحكام الشرعية لمسائل وقضايا هي نتاج لواقع غيرهم وهي إفرازات لحضارات مختلفة لكنهم يحاولون قدر المستطاع أن يجيبوا عن أسئلة الناس حول هذه القضايا وإن لم يتصدر للأسئلة بعد، ولكن هذا النوع لا يخرج عن أن يكون بيانا للأحكام الشرعية عند الطلب، فتأخر دور الفقهاء عن تمكين الناس وإعدادهم لما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية لمختلف ظروفهم وأحوالهم .. جاء ذلك في إجابات فضيلته للأسئلة الموجهة إليه في «سؤال أهل الذكر» وهو الذي كان بعنوان (الفقه الإسلامي تجديد الحياة أم تبرير الواقع؟).

وقال فضيلته إن الدين يقوم على «العلم» وعلى «الالتزام» ولما كان الفقه الإسلامي معبرا عن هذا العلم بالأحكام الشرعية وعن كيفية الالتزام بها فإنه بطبيعة الحال صار قانونا يلتزم به المكلفون حتى مع غياب السلطة الرقابية أو التشريعية أو الحاكمة فقد حصل ذلك والمسلمون، أي حصل العلم والالتزام، والمسلمون جماعة في مكة المكرمة تعاني من الظلم والاضطهاد والاستهزاء والسخرية ما لا مزيد عليه، ومع ذلك فإنهم تفقهوا في دين الله تبارك وتعالى والتزموا بما أمرهم الله عز وجل به وأطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلّغهم إيّاه ربه جل وعلا، وفيما أمرهم به وحيا غير متلو عليه الصلاة والسلام.

ونبّه فضيلته إلى أن دين الله تبارك وتعالى ليس نظريات تُحشى بها الأدمغة وإنما هو التزام، فالالتزام يعني العمل، يعني أن يمتثل المرء أمر الله تعالى فيما أمره به وفيما نهاه عنه فهو فعل من إتيان لما أمر الله عز وجل به أو كفٌّ لما نهى الله تبارك وتعالى عنه فليس هو مجرد علم نظري لا صلة له بواقع الحياة وإنما هو التزام.

** كيف تم اعتماد الفقه الإسلامي قانونا للحياة، ومتى تم ذلك؟

من أجل الجواب عن هذا السؤال لا بد من بيان معنى الفقه الإسلامي أولا، ولو بإجمال واختصار فإن معنى الفقه: علم النفس ما لها وما يلزمها فعلا وتركا أو هو العلم بالأحكام الشرعية التفصيلية من أدلتها التفصيلية، أو بلغة المعاصرة هو ما أنتجه العلماء المجتهدون من استنباطات للأحكام الشرعية العملية في مختلف وجوه العبادة والحياة من الأدلة التشريعية الأصلية والتبعية هذا هو الذي يطلق عليه الفقه الإسلامي، فهو نتاج علمي في مجال الأحكام الشرعية العملية، فهذا النتاج ينسب إلى أهل اختصاص، والذين يعرفون بالمجتهدين هم أهل الذكر في هذا الشأن، وهذا الإنتاج إنما هو من حيث الموضوع متعلق بالأحكام الشرعية العملية التي يحتاج إليها المسلم من أمر عبادته ومن أمر حياته.

وهذه الاستنباطات الاجتهادية التي أتى بها الفقهاء المجتهدون في تبيين الأحكام الشريعة إنما تؤخذ من الأدلة الشرعية وفي صدارة هذه الأدلة الشرعية كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم الإجماع والقياس وما يعرف بعد ذلك بالأدلة التبعية؛ فإذا تحرر هذا أمكن لنا أن نفهم لِمَ بلغ الفقه الإسلامي ليكون كما سميتموه قانونا عمليا في حياة الناس؛ لأنه متعلق ببيان الأحكام الشرعية العملية لهذا الدين الحنيف.

ويشير: الدين نفسه يقوم على أمرين اثنين، يقوم على العلم ثم يقوم بعد العلم على الالتزام، فإذا كان قائما على العلم فإن هذا يدفع المكلف إلى أن يتعرف على هذه الأحكام الشرعية ليعرف وجوه عبادته لله تبارك وتعالى، وكيف يمتثل أمر الله عز وجل في واقع حياته فيما يتعلق بعبادته له جلا وعلا أو دعائه وتضرعه إليه أو فيما يتعلق بمعاملته للناس بمختلف وجوه المعاملات سواء كانت معاملات مالية أو كانت معاملات اجتماعية مما يتعلق بالحقوق والعقود والالتزامات وغيرها، أو كان فيما نعرفه نحن اليوم بالممارسة السياسية أي بالفقه السياسي، فيما يتعلق بالمشاركة في القرار، فيما يتعلق بالحكم ونظام الحكم، فيما يتعلق بالصلة بين الحاكم والمحكوم وحقوق كل طرف وواجبات كل طرف إلى آخر ما يتعلق بالمعاملات بمختلف أنواعها، إذاً العلم بها هو الركن الأول، ثم يأتي بعد لك الالتزام لأن دين الله تبارك وتعالى ليس نظريات تُحشى بها الأدمغة وإنما هو التزام، فالالتزام يعني العمل، يعني أن يمتثل المرء أمر الله تعالى فيما أمره به وفيما نهاه عنه فهو فعل من إتيان لما أمر الله عز وجل به أو كف عما نهى ربنا تبارك وتعالى عنه، فليس هو مجرد علم نظري لا صلة له بواقع الحياة، وإنما هو التزام، ولذلك لما كان الفقه الإسلامي معبرا عن هذا العلم بالأحكام الشرعية وعن كيفية الالتزام بها فإنه بطبيعة الحال صار قانونا يلتزم به المكلفون حتى مع غياب السلطة الرقابية أو التشريعية أو الحاكمة فقد حصل ذلك والمسلمون، أي حصل العلم والالتزام، والمسلمون جماعة في مكة المكرمة تعاني من الظلم والاضطهاد والاستهزاء والسخرية ما لا مزيد عليه، ومع ذلك فإنهم تفقهوا في دين الله تبارك وتعالى والتزموا بما أمرهم الله عز وجل به وأطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلّغهم إيّاه ربه جل وعلا وفيما أمرهم به.

أما فيما يتعلق بالمراحل -باختصار شديد- فإنها أقرب إلى العلم النظري لأننا إذا فهمنا هذه الطبيعة للفقه الإسلامي أمكن لنا أن نتصور أنه تدرج في بنائه بحسب ما يتعلق بهذين العنصرين من العلم والالتزام وبحسب سعة الحوادث والنوازل وما يحتاج إليه المسلمون وما يتطلعون إليه في مستقبلهم.

أما ما يتعلق بتدوين الفقه الإسلامي وبالخصائص والمزايا لكل مرحلة مر بها المسلمون فتغيّر الفقه الإسلامي أو تطور أو اختلف تبعا لهذه المراحل المعيشية والسياسية والفكرية والعلمية والحضارية التي تقلب فيها المسلمون فإن ذلك أمر حتمي لا مناص منه، فمن احتاج إلى معرفة أطوار الفقه الإسلامي أو أدوار الفقه الإسلامي من حيث تدوين العلم وخصائص هذه المراحل فهذا موجود في مظان الكتب وليست هي في ظني محل البحث الآن.

** الفقه الإسلامي لم يعتمد في المراحل السابقة قانونا ثابتا للدولة إنما حدث ذلك متأخرا في أواخر الدولة العثمانية - إن صح التعبير- عندما أصدرت مجلة الأحكام العدلية، وقبل ذلك كانت كل إمارة إسلامية أو دولة إسلامية قامت هنا أو هناك تحكم برؤيتها الخاصة. لماذا لم يتم نظم الفقه الإسلامي منذ البداية ليكون قانونا ثابتا؟

قد اختلف معكم في هذه القضية، فالذي حصل في أواخر الدولة العثمانية هو التدوين القانوني أو ما يعرف بتقنين الفقه الإسلامي ليكون صالحا للقضاء. لكن الفقه الإسلامي لم يقتصر دوره على الالتزام الفردي وإنما كان هو التشريع الدستوري الذي يُحتكم إليه في معالجة شؤون المجتمع والدولة لا فيما يتعلق بالأفراد فحسب وينبغي لنا أن نفهم ذلك بقطع النظر عن مقدار الأخذ في فترة من الفترات في دولة من الدول أو في مرحلة من مراحل تاريخ المسلمين وحضارتهم كم يأخذون عمليا في مجال التشريع كان هناك اتفاق على أن المرجعية الحاكمة في التشريع إنما هي الفقه الإسلامي في مختلف جوانب الحياة. لم يقتصر ذلك على ما يتعلق بالأحوال الشخصية كما آل إليه الحال في العصور المتأخرة وإنما في مختلف وجوه الحياة، ففيما يتعلق بالجوانب المالية على سبيل المثال لم يأت وقت من الأوقات أُذن فيه على مستوى التشريع بالربا على سبيل المثال، لم يجرؤ أحد لا من الفقهاء ولا من ذوي السلطة والقرار والمسؤوليات العامة أن يتجرأ على تشريع الربا، وقد يخطئ بعض الناس في تكييف بعض المعاملات هل هي ربا أو ليست بربا، وتبعا لذلك يبنون الحكم الشرعي لكن ذلك مرده إلى أهل الاختصاص إلى أهل الاجتهاد أما ما اتفقت عليه الأمة أنه ربا فلم يجرؤ أحد لا على إباحة ربا ولا على إباحة خمور ولا على إباحة شيء من الفواحش والعياذ بالله ولا على السماح بأن يكون مستمدا. القضاء على سبيل المثال في الأحكام التي يفصلون بها منازعات الناس إلى غير ما ورد في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى عليه وآله وسلم، وهذا ما حفظ أو أورث للأمة قدرا مما احتفظت به من سيادتها وريادتها وقيادتها، فإن أحدا لم يجرؤ على النقص من قدرة الفقه الإسلامي على معالجة مشكلات الحياة وعلى الاحتكام إليه لكي يكون دستورا عاما وتشريعا يحتكم إليه ويرجع إليه ويعول عليه في مختلف وجوه ممارساتهم اليومية لم يجرؤ أحدا أبدا. ولكن الذي حصل أنه بدأ بعد ذلك حصر دور الفقه الإسلامي على هذا المستوى أي على المستوى التشريعي العام حتى وصل الحال إلى أن يكون خاصا بالأحوال الشخصية.

فهم فيه خلل

** الحديث عن استطاعة الفقه الإسلامي في مواكبة مستجدات الحياة لم يتعد الإطار النظري إلا قليلا، وأما دراسة المستجدات فهو مشغول بها منذ زمن طويل فيما يعرف بالنوازل، فهل هناك فرق بين التجديد وتأطير الجديد؟ وأين مهمة الفقه الإسلامي من قضية تجديد الحياة؟

هذه قضية مهمة، ومرة أخرى إذا عدنا للوراء قليلا حتى نتمكن من فهم هذه القضية فإنه ينبغي لنا أن نعلم أو أن نتعلم أن للفقه وظائف ثلاثا بحسب استقراء آيات الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إذا أردنا أن نصنّف التراث الفقهي الذي بين أيدينا اليوم فإن هناك وظائف ثلاثا للفقه الإسلامي. أما الوظيفة الأولى فإنها تبيين الأحكام الشرعية العملية ابتداء، فتتنزل الأحكام الشرعية في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى عليه وآله وسلم لتبين للناس الأحكام التي يحتاجون إليها ابتداء، وهكذا يأتي الفقهاء المجتهدون لاستنباط الأحكام الشرعية التي يحتاجها الناس في حياتهم.

الوظيفة الثانية وهي قريبة من الوظيفة الأولى: بيان الأحكام الشرعية عند الطلب بالاستفتاء أو السؤال؛ ولذلك نجد ما يقرب من اثنتي عشرة آية أو ثلاثة عشر آية من كتاب الله عز وجل «يسألونك» «يستفتونك»، فهذا الفقه إنما جاء على سبيل الفتوى لجواب على سؤال طلبه مستفت سائل يتبين به الحكم الشرعي في واقعة أو نازلة مخصوصة، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» لو أردنا ما يتعلق بالصنف الأول أيضا لكان لنا من الأدلة الشرعية نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يُرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ليس فقط فيما يحتاج إليه، وإنما يتفقه في دين الله تبارك وتعالى، ويحمل على هذا كثير مما ورد في كتاب الله عز وجل في فضل العلم وبيان منزلته، وما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم.

أما الوظيفة الثالثة فهي تمكين المسلمين مما يحتاجون إليه مستقبلا إذ من الخطأ الظن أن الفقه الإسلامي يقتصر دوره على ما يحتاج إليه المسلمون الآن أو ما يحتاجون إليه في وضعهم الحالي أو ما يحتاجون إليه فقط في نوازل مخصوصة بل إننا نجد أن الفقه الإسلامي يهيئ المسلمين ويوطئ نفوسهم وعقولهم ويعدهم لما سيحتاجون إليه في مختلف الظروف والأحوال مستقبلا في حالات السلم أو الحرب في حالات الضيق أو السعة في حالات الاضطرار أو اليسر في المنشط أو المكره في الغنى أو الفقر حينما يكونون قلة أو حينما يكونون كثرة حينما يكونون يعاملون غيرهم وإن لم يعاملوهم الآن، فتجد أن الفقه الإسلامي يستوعب ما يمكّن المسلمين من تحقيق مقاصد الشريعة ويبلغهم المآلات الشرعية الكبرى المطلوبة منهم. إذا فهمنا هذه الوظائف الثلاث يمكن لنا أن نشخّص أدواء عصرنا اليوم لأنه مرة أخرى كما تقدم حينما أصاب فهمنا للفقه الإسلامي خلل فحصرناه في وجوه معينة وفي زاوية ضيقة من زوايا هذه الحياة وهي زاوية الأحوال الشخصية وجوانب العبادات «الشعائر التعبدية» فإن ذلك أفضى إلى نتائج وخيمة، فإن الحال كذلك هنا، حينما نظن أن الفقه الإسلامي يقتصر على الفتوى لبيان الأحكام الشرعية عند الطلب، سواء كان الطلب بلسان الحال أو بلسان المقال، بلسان المقال حينما يسأل الناس عن نوازلهم عن مستجدات أو بلسان الحال حينما يتداعى الفقهاء والمجامع الفقهية اليوم للنظر في الأحكام الشرعية لمسائل وقضايا هي نتاج لواقع غيرهم وهي إفرازات لحضارات مختلفة لكنهم يحاولون قدر المستطاع أن يجيبوا عن أسئلة الناس حول هذه القضايا، وإن لم يتصدر الأسئلة بعد لكن هذا النوع لا يخرج من أن يكون بيانا للأحكام الشرعية عند الطلب، فتأخر دور الفقهاء-وهذه هي القضية المهمة- تأخر دور الفقهاء عن تمكين الناس وإعدادهم لما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية لمختلف ظروفهم وأحوالهم؛ وسأضرب بذلك مثالا..

بما أنكم ذكرتم أن الفقه الإسلامي يعمل على هذه المهام الثلاث، فقبل أن تضربوا الأمثلة وتتحدثوا عن الداء الذي أصاب الفقه الإسلامي لاحقا، فهل هناك في النصوص الشرعية ما يؤصل لهذه المهام الثلاث؟

نعم، وهذا هو المثال الذي أريد أن أضربه، فهناك أمثلة كثيرة فبلا مبالغة نقول إنه لا حصر لها، سأضرب مثالا بما هو معلوم ومتفق عليه: الشورى على سبيل المثال تحدث عنها الفقهاء وتحدث عنها المجتهدون لكننا نجد أن الشورى ترد في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة متصلة اتصالا مباشرا بهذه الوظائف الثلاث للفقه الإسلامي، والغريب أنها وردت حسب الأولويات، فنجد في سورة أسميت بالشورى في المرحلة المكية أن الله تبارك وتعالى يصف الجماعة المسلمة المؤمنة في ذلك الوقت وهم كما تقدم قلة مستضعفون بقوله «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» أي أمر هذا ولا يوجد كيان سياسي ولا توجد سلطة ولا يوجد مرجعية لهم ولا إشارات من أنهم سينتصرون وأنه ستكون لهم دولة وإنما كان غاية همهم أن ينشروا دعوة الله تبارك وتعالى بين العباد وأن يبلغوا هذا الدين إلى الناس، فيأتي ربنا تبارك وتعالى فيصف هذه الجماعة المسلمة ويقول «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»: لاحظ كلمة «وأمرهم» أي كل ما كان له علاقة من أمورهم فإنه شورى بينهم، ولذلك لا غرابة أنه بعد الهجرة بعام واحد ينتصرون في غزوة بدر الكبرى على جيش يفوقهم بثلاثة أضعاف ويفوقهم في العدة بثلاثة أضعاف وأكثر، لماذا؟ لأن هذا الوصف هيأ نفوسهم ووطأها لكي تكون ملتزمة بهذا المبدأ.

أما عند الطلب فنجد في سورة البقرة وهي سورة مدنية أن الله تبارك وتعالى يقول في أمر الرضاع في آخر الآية « فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا»، «فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور» إذا فطام الرضيع عن الرضاع ينبغي أن يكون بعد تراض ومشورة من الأبوين، وهذا على المستوى الفردي وهو جواب عن سؤال يتعلق بإمكانية فطام الرضيع قبل السنتين لأن صدر الآية « وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ»، وأما على مستوى بيان الحكم الشرعي في مختلف الأحوال ابتداء فأيضا نجد في غزوة أحد هنا تأخر إرساء هذا المبدأ وجاء بصيغة الأمر، فالله سبحانه وتعالى يقول «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» فيأمره تبارك وتعالى بمشاورتهم، وهذا مثال واضح لمختلف وظائف الفقه الإسلامي.

ومثال آخر، فيما يتعلق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا سنجد فيها أمرا عجبا، فكلنا نعرف طبيعة العرب أنها ما كانت تسلس قيادها لمن يتآمر عليها يأمرها وينهاها يقود أمرها وإنما كان كل واحد منهم يرى نفسه مالكا لأمر نفسه قائدا لها لا يسوسه غيره وإنما يسوس نفسه، ولذلك نجد تأكيد طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم متكررا في كتاب الله عز وجل أيضا في مختلف الأوضاع والأحوال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» هذا فيما يتعلق بالتأسيس ابتداء لتبين الأحكام الشرعية من حيث إرساء أصلها أي أن يكون مستمدا لتبيُّن الأحكام الشرعية بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك مرة أخرى أسلسوا قيادهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما استشراف المستقبل فجاء بصيغة بيان عاقبة مخالفة أمر رسول الله صلى عليه وآله وسلم حينما نأتي إلى بضع آيات على سبيل الآية السابقة من سورة الأنفال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وكأن مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضي بهم إلى الوقوع في الفتنة، وأن أثر هذه الفتنة لا يقتصر على الذين ظلموا منهم خاصة، هذا المعنى يتأكد في سورة النور وهي سورة مدنية فالله تبارك وتعالى أيضا يقول «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» في نفس السياق الذي يقول فيه «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» في نفس السياق الذي يقول في هذه الآية المحكمة يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بعد ذلك «لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا» ثم يأتي ويقول «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ولذلك فهم موقنون بما يمكن أن يفضي إليه حالهم إن هم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرضوا عنه، ولذلك نفوسهم وطئت وفقهوا دين الله تبارك وتعالى وعلموا الأحكام الشرعية وأسلسوا القياد لأمر الله تبارك وتعالى فسهل عليهم الالتزام، هذه بضعة أمثلة، حتى لو فحصنا بعض الأمثلة الشرعية المتعلقة بتحريم الخمر أو تحريم الربا أو تحريم الفواحش حتى في المنهيات والمحرمات المعلوم حكمها الشرعي المجمع عليه فإننا سنجد نفس هذه الوظائف، هذا لما قلت يمكن أن نصنّف الفقه الإسلامي، لكن الذي حصل –كما تقدم- هو أن المسلمين أصابهم انكفاء فحصروا الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالفتوى وتركوا التهيئة والإعداد وما يحتاجه المسلمون لبلوغ مقاصد هذا الدين الكلية والمآلات يسوقهم إليها دين الله تبارك وتعالى مما يورثهم العز والنصر والتمكين يقول تعالى «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» بعدما قال «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا».