أفكار وآراء

حول التخلي عن الخصخصة

25 أكتوبر 2017
25 أكتوبر 2017

تيم هارفورد- الفاينانشال تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

يمكن أن تتغير الأفانين والبِدَع السياسية بسرعة كما يتضح عندما تُلقي نظرة على أي نظام ديمقراطي غربي تقريبا. فمؤشر بندول «الممكن سياسيا» يتأرجح جيئة وذهابا. وأوضح ما يكون ذلك في الجدل الدائر حول موضوعي الخصخصة والتأميم. في أواخر أربعينات القرن الماضي دافع الخبراء عن التأميم في هِمّة وحماس لا يمكن تخيلهما اليوم. لقد اعتقد آرثر لويس بوجوب تولِّي الحكومة إدارة نظام الاتصالات الهاتفية والتأمين وصناعة السيارات. وكان جيمس ميد يرغب في تأميم صناعة الحديد والصلب والمواد الكيماوية. ولاحقا فاز كلا الرجلين بجائزة نوبل في الاقتصاد. لقد كانا منسجمين مع مقتضيات زمنهما. وانتهى المطاف بالحكومة البريطانية الى امتلاك ليس فقط المرافق الخدمية (الماء والكهرباء والغاز والمجاري) والصناعة الثقيلة بل أيضا خطوط الطيران ووكالات السفر، وحتى شركة نقل الأثاث «بِك فوردس» لكن مؤشر البندول ارتد عائدا (نحو الخصخصة) في أعوام الثمانينات وأوائل التسعينات مع ابتدار مارجريت تاتشر وجون ميجور سلسلة من الخصخصات الأكثر طموحا اختُتِمت بتخلي الحكومة عن خدمات المياه والكهرباء وخطوط السكك الحديدية. راقب العالم تلك السياسة واحتذى، في الغالب، حذو بريطانيا. هل كان ذلك مفيدا؟ ينطرح هذا السؤال الآن لأن مؤشر البندول تحرك عائدا مرة أخرى( في الاتجاه المعاكس.) فجيريمي كوربِن، مرشح «مكاتب المراهنات» المفضل للفوز بمنصب رئيس الوزراء القادم في بريطانيا، يريد إعادة تأميم السكك الحديدية ومرافق الكهرباء والماء والغاز (لم يذكر شركة بِك فوردْس لنقل الأثاث بعد). ويشير كوربن علاوة على ذلك إلى هذه الطموحات (التأميمية) كسبب للانسحاب من السوق الأوروبية الموحدة. لكن ذلك شيء غريب بالنظر إلى عدم وجود ما يمنع،في اللوائح التنظيمية للسوق الموحدة، ملكية الدولة لخطوط سكك الحديد أو المرافق الخدمية. لذلك يبدو هذا التعلل (من جانب كوربن) وكأنه أسطورة أخرى من أساطير المتشككين في الاتحاد الأوروبي أو انعكاس يساري للصحف الشعبية اليمينية التي تتشكَّى من القواعد التي تحدد نوعية الموز المستورد. (بموجب قرار تنظيمي صادر عن المفوضية الأوروبية يجب أن يكون الموز المستورد لبلدان الاتحاد خاليا من التشوه ومن التَّقَوُّس غير الطبيعي- المترجم.) وبما أن الطبقة السياسة البريطانية بِرمَّتِهَا مشوَّشة حول موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد (البرَيكْسِيت) لن يكون من العدل استهداف كوربن وحده على هذا الأساس. رغما عن ذلك، فقد جدد كوربِن الجدل الذي بدا أنه قد حسم منذ فترة طويلة وأثار اهتمامي بالموضوع . هل نجحت الخصخصة؟ يذكر أنصارها أحيانا الأثر المحرِّض لحافز الربح (على الانخراط في العمل الاقتصادي) أو الروح الريادية في مشروعات الأعمال الخاصة. أما خصومها فيتحدثون عن القطط السمان وبيع مقتنيات العائلة.(في انتقاد لسياسات الخصخصة في عهد تاتشر، وصف هارولد ماكميلان، رئيس الوزراء البريطاني عن حزب المحافظين في الفترة 1957-1963، بيع الأصول بأنه يوحي بحالة اليأس التي تنتاب الأفراد (أو الدول) حين يواجهون مشاكل مالية خطيرة وهو ما يقودهم إلي بيع الأواني الفضية العتيقة في البيت ثم الأثاث الفاخر في غرفة الاستقبال ثم اللوحات الفينيسية القيِّمة- المترجم.). وقد يفضِّل الواقعيون تفحُّص الأدلة التي قدَّم برنامج المملكة المتحدة الطموح الكثير منها على مر السنين. لا يوجد سبب يدفع الحكومة إلى امتلاك شركة « بِك فوردْس.» لكن «حسبة» الخصخصة تحتاج إلى دقة أكثر حين يتعلق الأمر بالاحتكارات الطبيعية، وهي الأسواق المحصَّنة بشكل عام من المنافسة.

فإذا لم أكن راضيا عمّا تعرضه لي شركة «بِك فوردس» حين أرغب في الانتقال الى مسكن آخر، لن تنقصني البدائل. ولكن نفس الشيء ليس صحيحا بالنسبة لهيئة البريد الملكي (رويال ميل). فإذا كنت أريد كتابة رسالة الى نائبي البرلماني سيكون حينها صندوق البريد الأحمر الكبير القائم عند طرف الشارع هو الخيار الوحيد المتاح لي لإرسال تلك الرسالة. وأحيانا تظهر المنافسة في ظروف تبدو مستبعدة. فهيئة الاتصالات البريطانية (بريتيش تيليكوم) كانت، كما يبدو، تمسك بقبضة حديدية على خدمات الهاتف في المملكة المتحدة (على نحو ما كانت تفعل ذلك شركة «أيه تي آند تي» في الولايات المتحدة). ولكن تلك القبضة اختفت في وجه القواعد التنظيمية والأهم من ذلك في مواجهة تحولات التقنية. كما تبدو السكك الحديدية احتكارا طبيعيا. ولكن يوجد خطان منفصلان يربطان بلدتي اكسفورد بمدينة لندن وشركتان منفصلتان تبيعان لي التذاكر لرحلتي بينهما. وهما تنافسان شركتين لتسيير الحافلات. وهكذا يمكن أن يبدو التخلص من التنافس متعذرا أحيانا. ولكن الحقيقة هي أنه كثيرا ما فشل في أن يؤتي أُكُلَه حتى عندما يُتَوقع منه ذلك. فإذا كنت أقوم أنا بتسيير خدمة حافلات عند الدقيقة 20 والدقيقة 50 سيكون في مقدور منافس آخر انتزاع السوق مني دون أن ينافسني بخفض سعر التذكرة وذلك بتسيير حافلات عند الدقيقة 19 والدقيقة 49. لا يمكن تقديم خدمة جيدة للزبائن بهذه الطريقة. وفي الأثناء، تفرض شركات الكهرباء والهاتف رسوما محيرة. كما يصعب إدراك كيف يمكن لشركات المياه أن تتنافس حقا. فمنطق الجغرافيا يوحي بغير ذلك. كل هذا مهم لأن الدرس العريض المستخلص من تجربة الخصخصة الكبيرة هو أن أداءها كان جيدا حين فُتِح المجال للمنافسة ولكنه كان دون ذلك حين تم استبدال الأنشطة التي تديرها الحكومة باحتكار مُقَنَّن (بواسطة امتياز ممنوح من الحكومة.) قبل أعوام قليلة أجرى الاقتصادي ديفيد باركر مسحا لدراسات حول الأداء في حقبة ما بعد الخصخصة. أكثر الأشياء اللافتة في هذا المسح كان التنوع في النتائج. فأحيانا ترتفع الإنتاجية بشدة. وأحيانا يَستَصفِي المستثمرون والمديرون لأنفسهم كل الزبدة. وما له دلالة أن الأداء كثيرا ما قفز في العام أو العامين السابقين للخصخصة مما يوحي بأن المؤسسات المملوكة للدولة يمكن أن تدار بطريقة جيدة حين تتوافر الإرادة السياسية. ولكن تلك الإرادة كثيرا ما تكون غائبة. ما خرجت به عموما من قراءتي للأدلة المتوافرة أن الخصخصة اتجهت إلى تحسين الربحية والإنتاجية والتسعير. ولكن المكاسب لم تكن كبيرة أو مضمونة. لقد كانت خصخصة الكهرباء ناجحة وخصخصة الماء مخيبة للآمال. أما خطوط السكك الحديدية «المخصخصة» فتخدم الآن أعدادا من المسافرين تفوق كثيرا الأعداد التي كانت تخدمها الهيئة البريطانية للسكك الحديدية. تلك قصة نجاح ولكنها تبدو وكأنها قصة فشل في كل مرة تصطدم أنفك بإبط أحدهم على متن قطار الساعة السادسة والدقيقة التاسعة مساء بمحطة فكتوريا في لندن. عموما تشير الأدلة إلى نتيجة فحواها أن الصورة رمادية أو بين بين(بها إيجابيات وسلبيات) وأن التفاصيل مهمة وأنه من الممكن الحصول على نتائج إذا كان تطبيق الخصخصة صحيحا. غير أن ساستنا يستنتجون عكس ذلك. أما مؤشر البندول فهو يتأرجح . لكنه لا يُظهِر ما يشير إلى أنه سيتوقف في الوسط (بين الخصخصة والتأميم).