أفكار وآراء

ألـغـام إسـرائيليـة مبكـرة.. في طريق المصالحة

24 أكتوبر 2017
24 أكتوبر 2017

فتحي مصطفى -

,, ما كادت أنباء المصالحة الوطنية الفلسطينية تملأ ربوع الشرق الأوسط حتى ظهرت حالة من العصبية المتوقعة من داخل الكيان الصهيوني عكستها التصريحات المتطرفة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ,,

وبينما اعتبرت أطراف إقليمية ودولية عديدة اتفاق المصالحة خطوة جادة ومهمة على طريق التسوية السلمية لطي صفحات مريرة وإنهاء سنوات دامية من الصراع العربي – الإسرائيلي كانت إسرائيل وحدها تمارس دورها المعهود بإطلاق تصريحاتها ومطالبها المتشددة التي تعكس بلا شك رغبة واضحة في نسف محاولات وجهود المصالحة الفلسطينية بما يخدم مصالحها الخاصة في جمود المباحثات والتفاوض وإطالة أمد الصراع، وهي التي طالما تشدقت بمزاعم واهية وكاذبة على غرار عدم وجود «شريك حقيقي للسلام»، وهيمنة «أجنحة متطرفة على القرار الفلسطيني»، وغياب الوحدة الفلسطينية التي يمكن من خلالها رؤية قرار فلسطيني موحد؛ ولذا لم يكن غريبا – وسط موجات الترحيب والإشادة العالمية بما تحقق على أرضية الميدان الفلسطيني – أن يسارع نتانياهو إلى إلقاء جملة من الألغام الجديدة بتصريحاته الفوقية المعهودة التي يطالب فيها بحل الجناح العسكري لحركة حماس ونزع شامل لأسلحتها ولكل الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.

والواقع أن هذه الألغام الإسرائيلية المبكرة في طريق المصالحة الفلسطينية تمثل بالفعل خطرًا حقيقيًا على مستقبل العمل الوطني الفلسطيني؛ حيث تمهد لخلق انقسامات جديدة مع تعطل مفاوضات التسوية، وبالفعل تبدو الحاجة ملحة لتوفير الضمانات الكفيلة بالحيلولة دون إقدام الاحتلال الإسرائيلي على القيام بأية أعمال عدوانية ضد قطاع غزة أو أي من الأراضي الفلسطينية المحتلة في المرحلة المقبلة، بما يعيدها عقودًا إضافية للوراء، مثلما يفضى في نهاية المطاف إلى إفشال تلك المصالحة الفلسطينية، ويحول دون تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن جانبها تحرص السلطة الوطنية الفلسطينية بالتأكيد على القيام بواجبها في هذا الصدد، حيث رفعت شعار «سلطة واحدة وسلاح واحد ومؤسسات واحدة، مثلما يسعى الرئيس أبو مازن إلى تقديم نفسه للعالم كقائد شرعي لكل الشعب الفلسطيني وليس لنصفه فقط، على حد زعم إسرائيل، كما يقود نظامًا موحدًا، تتوحد خلاله السلطة والوزارات وأجهزة الأمن تحت راية واحدة، عساه بذلك يبدد الذرائع الإسرائيلية بعدم وجود شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه فيما يخص عملية السلام.

وفي حين يمضي الفلسطينيون في هذا الاتجاه الإيجابي عكفت أوساط إسرائيلية رسمية وغير رسمية على التشكيك في فرص نجاح الجهود المصرية لتحقيق المصالحة الحقيقية بين حركتي فتح وحماس، مرتكنة في ذلك على سوابق تاريخية محبطة، حيث شهدت الساحة الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة عددًا من مبادرات المصالحة، ولكنها لم تنجح؛ بسبب مشكلات معقدة شتى كمشكلة موظفي إدارة حماس البالغ عددهم نحو 45 ألفًا، ما بين مدني وعسكري، وهم الذين تم تجنيدهم أو إلحاقهم بوظائف بعد انقلاب عام 2007، وتريد حماس تفريغهم فورا في حكومة رامي الحمد الله عندما تتسلم قطاع غزة، ولكن حركة فتح رفضت ذلك بذريعة أنه لا يمكن للحكومة استيعابهم دفعة واحدة، ثم تأتى قضية إدارة السلطة على المعابر، ثم سلاح الفصائل الفلسطينية التابعة لحركتي فتح وحماس، إلا أن المزاعم والمؤامرات الإسرائيلية المبكرة والمغرضة تحطمت على صخرة اتفاق القاهرة قبل أيام قليلة بين حماس وفتح.

ولا شك أن الأيام المقبلة ستكون –برغم ذلك التقدم الملموس- حاسمة إلى حد كبير في ترسيخ المصالحة الوطنية بين الفصائل بما ينعكس على القضية الفلسطينية برمتها، وذلك من خلال مزيد من المباحثات المقررة بين الفصائل الشهر المقبل لبحث ما سمي بالقضايا العالقة، وبرغم أن تلك القضايا أوجدت حالة من الترقب وربما التشكيك من جانب بعض الأطراف المتربصة، إلا أن مظاهر الجدية ودرجات الإحساس بالمسؤولية تبدو عالية جدًا لدى الأطراف الفلسطينية نتيجة عديد من الظروف الداخلية والتحولات على الصعيد الفلسطيني وكذلك على الصعيدين الدولي والإقليمي، ما يجعل للمصالحة هذه المرة مذاقا مختلفا؛ حيث لم تعد الساحة الفلسطينية بالفعل تتحمل المزيد من الانقسامات والخلافات، وباتت مهددة بالضياع في ظل غياب مشروع سياسي متكامل بعدما ضعفت آليات المقاومة وتعطلت مفاوضات التسوية ولم يعد لدى حركة حماس القدرة على إدارة قطاع غزة بالشكل الذي يرضي سكان القطاع مع تصاعد «العقوبات» من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية، وكلها عوامل تؤكد أن حرص الفصائل على تمهيد الأرضية بشتى السبل لنجاح تفاهمات القاهرة أمر حتمي لتطبيع الأوضاع على الساحة الفلسطينية.

واقع الأمر أن هذه التفاهمات وما ترتب عليها من مصالحة أصبحت ممكنة فقط بعد التحولات الكبيرة التي طرأت على مفاهيم حركة حماس التي أعلنت عنها قبل عدة أشهر، وتحديدًا في منتصف العام الجاري، وجاءت في سياق ما يمكن وصفه بميثاق جديد لها، وصدرت تحت اسم «وثيقة حماس»، وانطوت على تجديد لخطابها السياسي على نحو يتلاءم مع المرحلة السياسية التي تمر بها المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط والتي باتت تستوجب إحداث تغييرات في بنيتها الفكرية والأيديولوجية بما يدفعها إلى التكيف مع المتغيرات المتسارعة، ولا يجردها من موقع التأثير فيها والانخراط في سياقاتها المتعددة، خاصة السياسية في ظل غياب التوازن العسكري مع من يحتل الأرض ويغتصب الحقوق، ويمتلك آلة عسكرية بالغة التطور مدعوما بإسناد من أكبر دولة في المعمورة وهى الولايات المتحدة ضمن تحالفها الاستراتيجي مع الدولة العبرية والتزامها بحماية أمنها ووجودها وجعلها أكثر تفوقا على جيرانها من الناحية العسكرية والاستراتيجية.

وكان لافتا التأكيد على أن «حماس» حركة تحرر وطني فلسطيني ذات مرجعية إسلامية، وهو ما يعنى تجاهلا، إن لم يكن قطيعة مع ما ورد في ميثاقها السابق بأنّها جناح من أجنحة جماعة «الإخوان المسلمون»، وهي بذلك تحاول أن تتجنب سلبيات تلك العلاقة في ظل الظروف الإقليمية السائدة على المشروع الوطني، وهي التي أضرت بعلاقاتها مع أطراف عربية، وكانت مصر في مقدمتها وشهدت العلاقات معها خلال السنوات الست الأخيرة قدرًا كبيرًا من التوتر في ظل ورود أسماء لعناصر تنتمى للحركة متورطة في عمليات إرهابية وقعت سواء في سيناء أوغيرها من المناطق المصرية، كما تضمنت الوثيقة التي استقبلت بقدر كبير من الارتياح لدى أغلبية الأوساط العربية القبول بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967م، وهو تطور حقيقي في موقف وأيديولوجية الحركة التي ظلت رافضة على مدى العقود الأربعة الماضية لمثل هذا التوجه الذي أضحى عنوان الموقف الرسمي للنظام الإقليمي العربي الذي كان يعبر عنه باستمرار في بيانات القمم العربية بالذات منذ قمة بيروت 2002م التي تم فيها الموافقة على المبادرة العربية للسلام التي تقوم على القبول بالتطبيع الكامل مع الدولة العربية مقابل انسحابها الكامل من الأراضي العربية التي احتلت في عام 1967م وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ويعكس هذا التطور في موقف حماس تحولا نوعيا يتجلى في قبول إقامة الدولة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بما يتسق مع المشروع الوطني الفلسطيني المتوافق عليه في هذه المرحلة، وهو الذي يقبل بمبدأ حل الدولتين. لقد دفعت التطورات الأخيرة التي شهدها الإقليم حركة حماس لتقديم المزيد من التنازلات عقب اتساع هوة الانقسام، واستشعار الحركة التي تدير قطاع غزة خطورة استمرارها في تولي المهام بالقطاع في ظل التصعيد الدولي ضد الحركة، ومحاولة إسرائيل اقتطاع وفصل غزة وحصارها لفصلها عن الضفة الغربية، فأفرز ذلك ميثاقا أدى إلى مبادرة للحوار فاتفاق على المصالحة يتابعها العالم بشغف وترقب، وهذه الرؤية الواقعية التي بدأت حركة حماس تعتمد عليها للتعامل مع الأحداث الراهنة في غزة مع اشتداد الأزمة المالية عليها جاءت ضمن استراتيجيتها الجديدة التي كشفت عنها في وثيقتها السياسية، ودفعتها لفك ارتباطها بجماعة الإخوان وطرح أفكار لحل القضية، أكثر مرونة من أفكارها السابقة تتماشى مع المتغيرات الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وهي التي لم تعد تتحمل بالفعل مزيدا من الفشل والانقسامات الداخلية، ما يعني أن المصالحة الحالية هي خيار استراتيجي لا فكاك منه، وأكبر دليل على ذلك إعلان القاهرة الأخير والاتفاق على مزيد من الحوار في المراحل المقبلة لتكريس المصالحة على أرض الواقع.