الملف السياسي

خطوة صادمة ولكنها غير مفاجئة ..

23 أكتوبر 2017
23 أكتوبر 2017

بشير عبد الفتاح -

,, تتخوف دول شتى حول العالم من أن يفضي انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو إلى إفشال تلك الأخيرة، أو على الأقل تقليص نشاطها وتقييد دورها أو ربما يصل الأمر إلى إغلاقها يوما ما ,,

في خطوة صادمة ومثيرة، وإن لم تكن الأولى من نوعها باغتت الولايات المتحدة العالم بأسره ، وسددت ضربة موجعة للتنظيم الدولي الراهن حينما أعلنت يوم الخميس الموافق 12 أكتوبر الجاري، وهو الذي تزامن مع فعاليات التصويت لاختيار مدير عام جديد لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عن عزمها الانسحاب من المنظمة الأممية وذلك اعتبارا من يوم 31 ديسمبر القادم ، حيث صرحت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأمريكية هيذر نويرت أن الولايات المتحدة ستشكل بعثة رمزية مصغرة تمثل واشنطن لدى المنظمة بصفة مراقب، وتحل محل بعثتها الكاملة الدائمة لدى المنظمة التي تتخذ من باريس مقرًا لها.

ومن جهتها تتخوف دول شتى حول العالم من أن يفضي انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو إلى إفشال تلك الأخيرة، أو على الأقل تقليص نشاطها وتقييد دورها أو ربما يصل الأمر إلى إغلاقها يوما ما أسوة بما جرى مع منظمات ومعاهدات دولية أخرى عديدة توارت أو تراجع دورها إثر مجافاة واشنطن لها أو انسحابها منها خصوصا أن القرار الأمريكي الخطير يتزامن مع تفاقم القيود والأزمات التي تحاصرالمنظمة العالمية منذ عقود، إلى مستوى ينذر بأفول وهجها.

فخلال النصف الأول من القرن الماضي رفضت واشنطن الانضمام لمنظمة عصبة الأمم التي نشأت فكرتها على يد وزير الخارجية البريطاني ادوارد جراي في أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ بهدف كبح جماح سباق التسلح العالمي وتسوية النزاعات قبل أن تتطور إلى مواجهات مسلحة مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى التي جعلت المنظمة من معاهدة فرساى نهاية لها، علاوة على دعم الاستقلال السياسي للدول واحترام وحدة تراب الأمم كبيرها وصغيرها على حد سواء.

فلقد تبنى الرئيس الأمريكي وقتئذ وودرو ولسون فكرة إنشاء عصبة الأمم، وحرص على أن تتضمن معاهدة فرساي نصّاً يدعو لإنشائها، وتم بالفعل إدراج نص التأسيس في 25 يناير من عام 1919 بالجزء الأول من المعاهدة، بل إن الدعوة إلى تأسيس تلك المنظمة الدولية كانت إحدى المبادئ الأربعة عشر للسلام التي طرحها ويلسون ونال على إثرها جائزة نوبل للسلام عام 1919.

وبالرغم من هذا التأييد الأمريكي اللافت لفكرة إنشاء عصبة الأمم، إلا أن الكونجرس الذي كان يهيمن عليه الجمهوريون في حينه رفض التصديق على ميثاق العصبة، كما أبى انضمام الولايات المتحدة إليها مبررا موقفه السلبي هذا بأن النظام التأسيسي للعصبة لم يكن سوى محاولة مقيتة من الدول الأوروبية الاستعمارية الكبرى للاستئثار وحدها بغنائم الحرب العالمية الأولى.

ومثلما كان متوقعا حينئذ أفضى امتناع واشنطن عن الانضمام لمنظمة عصبة الأمم إلى إفشال تلك المنظمة بعدما عجزت عن تحقيق أهدافها وأخفقت في التصدي للأزمات والتحديات التي اجتاحت العالم خلال سنين العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وهي التي كان من أبرزها صعود القوى الفاشية والنازية، كما لم تفلح في الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى إنهاء عمل عصبة الأمم وتفكيكها كلية في 18 أبريل من عام 1946.

واليوم تخشى منظمة اليونسكو من أن يسفر انسحاب واشنطن منها وتجميد دعمها المالي لها بعد الامتناع عن تسديد أية مستحقات سابقة، عن مفاقمة الأزمة المالية التي تلقى بظلالها على المنظمة الأممية منذ عقود، بما يقود في نهاية المطاف إلى تكبيل تحركاتها وتقويض دورها، لاسيما أن حصة الولايات المتحدة المالية للمنظمة التي تبلغ نحو 80 مليون دولار سنويا، تمثل وحدها قرابة خمس ميزانية تلك المنظمة الأممية. ويمكن للمراقب أن يتخيل التداعيات السلبية للقرار الأمريكي المثير على أداء اليونسكو إذا ما علمنا أن الولايات المتحدة ليست وحدها التي لم تسدد الإسهامات المالية للمنظمة الأممية، وإنما هناك دول أخرى، منها بريطانيا واليابان والبرازيل لم تسدد حصصها المالية في ميزانية المنظمة للعام الجاري. وفى هذا السياق صرح دبلوماسي باليونسكو إن «غياب الولايات المتحدة أو أي دولة كبرى لها نفوذ كبير يمثل خسارة هائلة للمنظمة، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، وإنما أيضا فيما يتصل بنشر قيم ومبادئ تعتبر حيوية لدولة بوزن الولايات المتحدة مثل الديمقراطية والتعليم والثقافة».

لذا، لم يكن مستغربا أن تعرب إيرينا بوكوفا المدير العام المنتهية دورة رئاستها لليونسكو عن أسفها لقرار الولايات المتحدة الانسحاب من المنظمة مؤكدة في بيان لها بهذا الخصوص على أن «انسحاب الولايات المتحدة خسارة لليونسكو وخسارة لأسرة الأمم المتحدة وخسارة للتعددية».

وفى مسعى منها لتهدئة القلق الدولي من تداعيات القرار الأمريكي المربك أعلنت المديرة الجديدة لليونسكو الفرنسية أودري أزولاي من جانبها أنها ستبذل قصارى جهدها من أجل إعادة واشنطن إلى عضوية المنظمة الأممية، معبرة عن ثقتها في نجاح جهودها بهذا الصدد، لا سيما أن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية بهذا الخصوص في وقت سابق من الشهر الجاري أشار إلى أن الولايات المتحدة ستسعى إلى «الاستمرار في المنظمة كدولة مراقبة غير عضو من أجل المساهمة بآرائها ومنظوراتها وخبراتها»، كما أن هذه ليست المرة الأولى التي تعلن الولايات المتحدة الانسحاب من اليونسكو، إذ فعلت ذات الأمر في ثمانينيات القرن الماضي، كما جمدت مساهماتها المالية المقدمة إلى اليونسكو في 2011، عقب قرار الأخيرة بمنح فلسطين العضوية الكاملة فيها ، لكنها ما لبثت أن عادت مرة أخرى إلى عضوية المنظمة في العام 2003 ، كما دأبت مجددا على تسديد ما عليها من التزامات مالية حتى العام الماضي.

ومن منظور آخر يمكن فهم قرار واشنطن الانسحاب من اليونسكو في سياق سعيها المتدرج والمتتابع للانسلاخ المثير للتساؤل عن الهيكل التنظيمي والبنيان المؤسسي والإطار القانوني للنظام الدولي الراهن. ففي عام 2002م انسحبت واشنطن من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ABM التي تم التوقيع عليها في العام 1972، باعتبارها حجر الزاوية لنظام منع سباق التسلح الصاروخي حول العالم، وفى يونيو الماضي أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ، مدعيا أنها تهدف إلى إلحاق الضرر بالولايات المتحدة وإعاقتها وإفقارها، كما تضر بالاقتصاد الأمريكي إذ تكبده ثلاثة تريليونات دولار وتقضي على ستة ملايين وظيفة صناعية، وقد جاء قرار ترامب رغم أن الاتفاقية التي تسعى لتحويل الاقتصاد العالمي عن الوقود الأحفوري خلال هذا القرن قد وقع عليها سلفه باراك أوباما عام 2015م، واعتبره الجميع وقتئذ قائدا لمواجهة الاحتباس الحراري وتغير المناخ في العالم، فيما ينص محتواها على حظر انسحاب واشنطن رسميا من هذه الاتفاقية قبل حلول نوفمبر 2020.

وفى مطلع الشهر الجاري رفضت واشنطن توقيع معاهدة لحظر الأسلحة النووية تدعمها «الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية» (آيكان) التي نالت جائزة نوبل للسلام لـلعام 2017م، بفضل جهودها من أجل توقيع معاهدة تاريخية لحظر الأسلحة النووية هذا العام، وقد بررت واشنطن موقفها هذا بأن هذه المعاهدة لن تجعل العالم أكثر سلاما ولن تؤدي إلى نزع سلاح نووي واحد، كما لن تعزز الأمن والاستقرار العالميين، إذ لم تنضم إليها أي من الدول النووية التسع التي تمتلك أو يشتبه في أنها تمتلك السلاح النووي، وهى الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية، وفي هذا السياق يأتي قرارها بالانسحاب من اليونسكو.