أفكار وآراء

الدقـة الغائبـة فـي الاحتفـال العالمـي

22 أكتوبر 2017
22 أكتوبر 2017

أ.د. حسني نصر -

طالعتنا الصحف اليومية صباح يوم السبت الماضي بخبر نشر على الصفحات الأولى في بعضها، واحتل مساحات واسعة على الصفحات الداخلية في البعض الآخر، يقول إن السلطنة ممثلة في المركز الوطني للإحصاء والمعلومات شاركت دول العالم أمس، الاحتفال باليوم العالمي للإحصاء الذي يوافق العشرين من أكتوبر من كل عام.

من الواضح أن الخبر المنقول عن وكالة الأنباء العمانية لم تتم مراجعته قبل نشره سواء من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، أو من وكالة الأنباء الوطنية أو حتى من الصحف التي نشرته. فالاحتفال العالمي لم يتم في الواقع لسبب بسيط هو أن العالم يحتفل باليوم العالمي للإحصاء كل خمس سنوات وليس كل عام، وذلك بموجب المادة الثانية من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 69/‏‏282 الصادر في الثالث من يونيو ٢٠١٥ التي تنص على «الاحتفـال بـاليوم العـالمي للإحصـاء في ٢٠ أكتـوبر من كل خمس سنوات». وقد تم الاحتفال باليوم العالمي الأول في العام 2010، تحت شعار «الاحتفال بالإنجازات الكثيرة للإحصاءات الرسمية»، وباليوم الثاني في العام 2015، تحت شعار «بيانات أفضل من أجل حياة أفضل». ومن المقرر أن يتم الاحتفال باليوم العالمي الثالث للإحصاء في العام 2020.

مع كل التقدير للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات الذي سبق وأن أشدت بنتاجه الإحصائي والمعلوماتي المتميز في أكثر من مقال في هذا المكان، ودعوت إلي ضرورة استثمار جهوده والإحصاءات الشاملة والنوعية التي يقدمها في وضع السياسات وصنع القرارات المتصلة بجميع مناحي الحياة في السلطنة، ومع قناعتي بسلامة النية ونبل القصد لدى العاملين بإدارة الإعلام في المركز، وسعيهم إلى انتهاز أية فرصة للإعلام عن أنشطة المركز وإنجازاته وتقديمها للناس، فإن الحديث عن احتفال عالمي وهمي وفي غير ميعاده أمر غير دقيق من مركز تمثل المعلومات جزءا من اسمه، وكان يمكن تلافي هذا الخطأ بإجراء بحث سريع على موقع الأمم المتحدة والموقع الخاص باليوم العالمي للإحصاء، ومواقع أخرى كثيرة على شبكة الويب لكي يدرك من حرر الخبر ومن سمح بنشره أن هناك خطأ معلوماتيا وأنهم سبقوا الاحتفال الأممي بثلاث سنوات تقريبا.

لا ضير إطلاقا من أن يُعلم المركز عن أنشطته عبر الأخبار والتقارير التي يرسلها للصحف، بل أن هذا الإعلام يبدو ضروريا ومرحبا به في ظل المنجزات الإحصائية والمعلوماتية التي يقدمها المركز منذ إنشائه بالمرسوم سلطاني رقم 31/‏‏ 2012، والتي شملت عشرات التقارير والإصدارات، وما حققه من جوائز وطنية وخليجية وعربية وعالمية. كان من الممكن أن ينشر نفس الخبر بنفس تفاصيله دون الوقوع في خطأ الإشارة إلى الاحتفال العالمي، فالمعلومات التي يتضمنها مهمة وتستطيع وحدها أن تقنع صانع قرار النشر في الوكالة والصحف بنشرها، مثل الإشارة إلى تحقيق المركز خلال العام الحالي 2017 المركز الأول خليجيا والثامن بمنطقة غرب آسيا من بين 173 دولة بالعالم في مجال البيانات المفتوحة، ومشاركته شعبة الإحصاء بالأمم المتحدة في ترؤس فريق عمل البيانات الضخمة باستخدامات بيانات الهواتف النقالة في عامي 2016 و2017، إلى جانب الدور الذي يقوم به في التحضير لتنفيذ التعداد الإلكتروني للسكان والمنشآت لعام 2020، ومشروع نظام العنونة الموحد الذي يسعى إلى توحيد معايير ومواصفات العنونة في السلطنة.

الواقع أن مثل هذه الأخطاء تفتح الباب أمام تناول قضية الدقة في الصحافة من جانب، وعلاقة وسائل الإعلام في السلطنة بدوائر العلاقات العامة والإعلام بالوزارات والمؤسسات المختلفة من جانب آخر. في الجانب الأول أصبح من المهم أن تراجع الصحافة مدخلاتها المعلوماتية وتتحرى الدقة، إذا كانت تريد بالفعل أن تبقى في محيط الاهتمام الجماهيري وان تستعيد ثقة القراء وان تنافس الوسائل الجديدة التي تقض مضجعها ليل نهار وتبشر بانتهاء وزوال الصحف الورقية. لم يعد بالإمكان في الصحافة العالمية التخلي عن شرط الدقة خاصة بعد أن أتاحت شبكة الويب إمكانات هائلة للتحقق من صحة ودقة المعلومات. وفي هذا الإطار يقول مرصد الحريات الصحفية إن « دقة وصحة المعلومات جزء مهم في تحديد مصداقية أي مؤسسة إعلامية معروفة وذات قيمة. وعلى المحررين والمراسلين والمعدين، أن يبذلوا أقصى جهد عند نشر أية مادة، وان تكون متضمنة معلومات دقيقة وصحيحة، فالأخبار والتقارير يجب أن تحوي تفاصيل مستقاة من عدة مصادر. ويجب تأكيد صحة المعلومات من مصادر موثوقة لتضمينها في المادة التي يتم إعدادها. وأي خطأ في الخبر أو التقرير، مهما كان صغيرا، يعرض مصداقية وقيمة المؤسسة الإعلامية للخطر، وتفقد تلك المؤسسة مصداقيتها وشعبيتها بين الناس، فلا يعودون يهتمون بالأخبار والتقارير التي تصدرها».

وتمثل الدقة أحد الأسس الأخلاقية للعمل الصحفي وتتقدم في بعض الأحيان على قيمة الموضوعية في عرض المعلومات والأحداث التي لا يمكن ضمانها في غالب الأحوال لارتباطها بالأحكام الشخصية للصحفي. ولا يخلو ميثاق شرف أخلاقي للصحافة في العالم من تأكيد على قيمة الدقة التي يجب أن تصبغ كل المواد الصحفية المنشورة في وسائل الإعلام. وعلى هذا الأساس يُعد عدم تحري الدقة في تحرير ونشر الأخبار مخالفة أخلاقية واضحة يجب أن تحرص وسائل الإعلام على عدم الوقوع فيها. وفي تقديري أن المشكلة لا تكمن في هذا الخطأ الذي يبدو بسيطا، ولكن في أن التساهل مع مثل هذه الأخطاء وتمريرها دون الوقوف عندها، قد يؤدي إلى وقوع الصحف في أخطاء أكبر. ففي المثال الذي صدرنا به المقال قد لا يكون الأمر خطيرا بالحديث عن المشاركة في احتفال عالمي لم يتم في الأصل ولن يتم إلا في العام 2020، ولكن السكوت عن الخطأ الصغير قد يقود إلى أخطاء كبيرة يكون من الصعب التسامح معها.

على الجانب الآخر وفي إطار مراجعة المدخلات في صناعة الصحافة في السلطنة يجب العمل على تصحيح علاقة الصحف ووكالة الأنباء مع دوائر الإعلام والعلاقات العامة بالمؤسسات والهيئات المختلفة، حتى لا تتحول صحفنا اليوم إلى نشرات صماء للعلاقات العامة. من حق دوائر الإعلام أن تعد المادة الإعلامية التي ترغب في نشرها وان ترسلها إلى وكالة الأنباء والصحف، ولكن ليس من حقها فرض نشر هذه المواد بأي شكل من الأشكال. فالحكم على صلاحية الخبر للنشر واتخاذ قرار النشر هو حق أصيل وحصري لإدارات التحرير في الصحف وبالتالي فإن امتناعها عن نشر خبر ما يجب ألا يغضب المؤسسة صاحبة الخبر. في المقابل فان من حق الصحف والصحفيين أن يستخدموا الأخبار التي ترد إليهم من هذه الدوائر، وان ينشروا ما يشاؤون منها، ولكن هذا النشر يجب ألا يكون آليا ودون مراجعة حقيقية لما تتضمنه من معلومات.

لقد سبق أن نبه باحثون وصحفيون كثر من خطورة تحول الصحافة العمانية إلى صحافة علاقات عامة، بل وكشفت نتائج بحوث علمية عديدة عن سيطرة واضحة لأخبار العلاقات العامة على صفحات الأخبار المحلية في الصحف اليومية، ومع هذا فإن الوضع لم يتغير، وما زالت الصحف تتوسع-لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا-في نشر الأخبار الجاهزة التي ترد إليها من دوائر العلاقات العامة والإعلام.