أفكار وآراء

ما الذي يجري في الداخل الأمريكي ؟

21 أكتوبر 2017
21 أكتوبر 2017

إميل أمين/ كاتب مصري -

[email protected] -

تبقى الولايات المتحدة الأمريكية وحتى الساعة مالئة الدنيا وشاغلة الناس، كما قيل عن شاعر العرب الأشهر المتنبي ذات مرة، ومرد ذلك انه ولو أنها لم تعد القطب المنفرد بمقدرات العالم، فإنها على الأقل تبقى الأول بين متساويين، وحتى هذه المرحلة لا إجماع عليها، ما يعني أن الاستثنائية الأمريكية تبقى فاعلة وناجزة على كافة الأصعدة المتصلة بسياقات الحياة الأمريكية في الداخل وانسحاباتها كذلك على الخارج.

في هذا الإطار يبقى فرض عين متابعة المشهد الأمريكي الداخلي والتنبؤ إن جاز التعبير بتبعات ما يحدث هناك، على العديد من البقاع والأصقاع حول العالم.

ولعل منطلق التساؤل عن أحوال أمريكا الداخلية هو حالة العنف التي استشرت في الفترة الأخيرة وآخرها حادثة مدينة لاس فيجاس قبل أيام، وهل هذا العنف وليد الاضطرابات السياسية والاجتماعية عطفا على الاقتصادية التي تعيشها أمريكا ؟

يمكن القطع بأن إدارة الرئيس ترامب والتي تخطت التسعة اشهر لم تكتمل أركانها الوظيفية من جهة، ولا الايديولوجية من جهة أخرى، والدليل على ذلك ان هناك بعض الوظائف في هذه الإدارة لم تشغل بعد، كما ان عددا من كبار المستشارين المقربين من الرئيس ترامب وفي المقدمة منهم ستيف بانون، عقل ترامب المفكر، قد اجبروا على ترك أعمالهم في البيت الأبيض، وباتت هناك حلقات من الانتقام المتبادل بين بعض من هم في الداخل ومن هم خارج إدارة ترامب.

على أن المشهد الذي يجعل إدارة ترامب، إدارة قلقة حتى الساعة، هي قضية تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأمريكية - حسب اعتقاد البعض على الأقل - وهي قد تهدد بقاء الرئيس نفسه حال تم توجيه اتهام له من قبل الكونجرس، بشأن ما جرى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعلاقة فريقه الجمهوري بروسيا الاتحادية،وهل تدخلت بشكل أو بآخر للتأثير على مجريات العملية الانتخاب وتكوين رأي عام مخالف للديمقراطيين، وللثأر من هيلاري كلينتون على نحو خاص.

ما الذي جرت به المقادير مؤخرا في هذا الشان وكيف يمكن ان يؤثر في السياسات الأمريكية قريبة الأجل ؟

أمران في واقع الحال، أما الأول فهو الكشف عن علاقة ما بين المدير الثاني لحملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية « بول مانفورت « وبين الروس، ما يلقي بظلال قاتمة على القضية برمتها ويزيد من احتمالات قيام المحقق الخاص « روبرت موللر» بطلب شهادة « مانفورث «،مع ما يمكن ان ينجم عنه هذا من صفقة تعزز شبهة تواطؤ موسكو مع الحملة الانتخابية لدونالد ترامب، الأمر الذي يفتح الباب واسعا لعزل الرئيس الأمريكي.

والشاهد ان هذا الملف بات مؤرقا لترامب، وهنا فإنه يفكر جديا في عزل « موللر»، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، ويذكرنا بما فعله الرئيس ريتشارد نيكسون الذي قام بعزل المحقق الخاص الذي تم تعيينه من قبل وزارة العدل الأمريكية للتحقيق في إبعاد فضيحة «ووترجيت»، وهو إجراء لو اقدم عليه ترامب لفتح الباب أمام أزمة سياسية كبرى، وسؤال مفتوح هو هل يحق له هذا أم لا، و وقتها قد يتدخل الكونجرس لحسم المسألة برمتها .

الامر الثاني الذي وضع ثقلا كبيرا على ترامب يتصل بصهره المقرب والمحبب « جاريد كوشنر « زوج ابنته « ايفانكا «، والذي يثق فيه ترامب كثيرا.

لكن كوشنر وضع ترامب الأيام الماضية في مأزق كبير، قد يكلفه منصبه في البيت الأبيض، اذ أشارت صحيفة « بوليتيكو « النافذة أمريكيا الى ان كوشنر استخدم بريدا الكترونيا خاصا الى جانب حسابه الرسمي في البيت الأبيض لتبادل الرسائل مع مسؤولين آخرين في الإدارة.

بوليتكيو تقول ان رسائل البريد الإلكتروني تضمنت مراسلات عن التغطية الإعلامية والتخطيط لأحداث ومواضيع أخرى، فيما أشار «آبي لويل « محامي كوشنر الى ان موكله التزم بقواعد الاحتفاظ بالسجلات الحكومية عن طريق إعادة إرسال رسائل البريد الإلكتروني إلى حسابه الرسمي.

وبدون الإغراق في تفاصيل ما حدث، فإن الأمر برمته يضعه في مأزق بالغ الحرج أمام الديمقراطيين، فقد اتخذ ترامب من قيام هيلاري كلينتون أيام شغلت منصب وزيرة الخارجية بإرسال رسائل إلكترونية من حسابها الخاص غير المؤمن بحماية حكومية، تكئة للهجوم عليها، وبما ساعد على إسقاطها في مواجهته، وهي فرصة ذهبية في كل الأحوال للديمقراطيين، وحكما لن يتركوها تذهب هباء .

هنا يستدعي الأمر التساؤل هل الرئيس ترامب يبدي اهتماما جديا في مواجهة تلك الإشكالية ؟ حكما لا يغيب المشهد عن الرئيس وطاقم إدارته، ولهذا فإن هناك بعضا ممن يرون ان سياسات ترامب الداخلية والخارجية الأخيرة، ليست إلا ضربا من ضروب الهرب الى الأمام، حتى وان كلف ذلك الهرب دخول البلاد في حروب جديد، او تنفيذ سياسات ذات ملامح ومعالم تثير الخلافات والانتقادات.

أما عن الهرب الداخلي فقد تمثل في شغل الرأي العام الأمريكي من جديد بقضية قيود السفر على مواطني بعض الدول التي يرى ترامب أنها تهدد امن وأمان المواطن الأمريكي.

العودة الى هذه القصة من جديد يستدعي العديد من تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية عن منع المسلمين من دخول أمريكا، وهو تصريح غير دستوري، وينافي ويجافي مسألة حرية الإيمان والعقيدة التي يحرص الدستور الأمريكي على صيانتها .

ففي 24 من سبتمبر المنصرم تمت إضافة دول جديدة للمرسوم السابق الذي يفرض حظرا على مواطني ايران وليبيا وسوريا واليمن والصومال،ويقلل جدا من فرص دخولهم الى امريكا، اما الدول المضافة فهي كوريا الشمالية وفنزويلا وتشاد.

ولعل السؤال الذي يتردد وبقوة في هذا السياق هو هل جاءت إضافة تلك الدول لأسباب تتعلق بالإرهاب بالفعل ام لأسباب سياسية أخرى لا تخفى عن الناظر للمشهد بعين ثاقبة ؟

من الصعب بمكان تقديم جواب واف عن ذلك، سيما وان هناك تداخلا كبيرا بين المشهدين، لكن الأرجح أمران الأول هو ميول سياسية بالفعل لدى ترامب تجاه الدول الثلاث، أي ميول لإدانتها سياسيا، فنظام كوريا الشمالية وان قبل المرء فكرة انه يهدد أمريكا عبر الصواريخ البالستية، او القنابل الهيدروجينية، الا ان مواطني كوريا الشمالية لم يكونوا يوما من خلايا القاعدة او داعش. وبالقياس عينه فإن فنزويلا ومواطنيها لم يهددوا أمريكا في أي وقت سابق أو لاحق، ما يجعل إضافة اسمها على لائحة الدول المحظور دخول مواطنيها الا بإجراءات شديدة التعقيد، ليس الا ضربا من ضروب المكايدة السياسية، عطفا على الرغبة في الانتقام من نظام «مادورو « الرافض للهيمنة والتبعية لأمريكا.

فيما تشاد قد تكون وحدها غير المستقرة داخليا، وممر لكثير من عناصر القاعدة وداعش الى ما حولها من دول، وفي كل الأحوال فإن إضافة الدول الثلاث هذه، انما يعطي فرصة ذهبية لترامب للفكاك من الاتهام بأن الحظر موجه لدول إسلامية، ففنزويلا دولة مسيحية كاثوليكية بامتياز، فيما كوريا الشمالية دولة شيوعية، اما تشاد فهي خليط من اديان وأجناس مختلفة.

على أية حال فإن الجميع في انتظار قرار المحكمة العليا التي ستنعقد في العاشر من أكتوبر والذي سيحدد ما إذا كانت إجراءات ترامب دستورية أم لا وسيحسم قضية طال حولها الجدل ؟

هل من إشكاليات أخرى تعمد إدارة ترامب الى التلاعب بمقدراتها في محاولة لشغل الرأي العام الداخلي عن أزماتها الخاصة وفي مقدمتها « روسيا غيت «؟

بالقطع هناك ملفات تتقاطع فيها الإرادة الأمريكية السياسية مع أحوال العالم الخارجي، نختار منها على سبيل المثال لا الحصر ملفين:

اما الملف الاول فيتصل بالمجابهات التي تكاد ان تضحى مواجهات في لحظة من انفلات العقل من مكامنه الطبيعية بين كوريا الشمالية وبين الولايات المتحدة الامريكية، وهنا فإن المرء يتخوف من التحركات العسكرية الأمريكية، سواء تحليق الطيران الأمريكي فوق بيونج يانج، أو تحرك قطع البحرية الأمريكية العسكرية الى مياه بحر الصين الجنوبي، وهي كلها إشارات تؤكد ان الاحتمال العسكري حاضر على الطاولة، الأمر الذي تنبهت له القيادة السياسية والعسكرية في بيونج يانج، ولهذا خرج تصريح شديد الخطورة مفاده ان أمريكا أعلنت علينا الحرب بالفعل، حتى وان أنكرت واشنطن الأمر.

أما الملف الثاني الذي ندلل به على ما يجري داخل أمريكا فهو ملف الاتفاق النووي بين ايران والسداسية الدولية، والذي يخضع لمراجعة كبيرة شاملة وعامة في الداخل الأمريكي، وذلك من اجل تحديد الموقف الأمريكي من هذا الملف.

فإن هذا الملف يعد من اهم الملفات الخارجية، انطلاقا من انه ملف مؤثر وفاعل في حالة السلم والحرب في المنطقة، لا سيما في منطقة مضطربة بذاتها ولا تحتاج الى مزيد من الاضطرابات او المواجهات العسكرية من الخارج.

السؤال الأخير قبل الانصراف .. هل ستكون الحروب هي أداة ترامب للخلاص من أزماته الداخلية .؟ وهل سيعزز بقاءه في البيت الأبيض عبر حروب خارجية جديدة؟

في عدد من استطلاعات الرأي الأخيرة في اكثر من دولة حول العالم، اعترف اكثر من 25% ممن استطلعت آراؤهم - والعهدة هنا على الراوي البروفيسور والكاتب الأمريكي بول كريج روبيرتس - بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي اكبر تهديد للسلام في العالم، وهذا اعلى بخمسة أضعاف من الذين يعتبرون كوريا الشمالية وايران تهديدين ..

قبل الانصراف هل يتوجب على ساسة أمريكا إعادة قراءة مشاهدهم الداخلية والخارجية حتى لا يتأثر السلام العالمي ليصل الى الأسوأ الذي لم يأت بعد أي المواجهة الكونية الثالثة ؟ ثم هل يتوقف الساسة هناك للتساؤل عن علاقة توترات أمريكا الخارجية بازدياد معدلات العنف والإرهاب داخلها ؟