الملف السياسي

البحث العلمي.. فجوة الإمكانيات والنتائج

16 أكتوبر 2017
16 أكتوبر 2017

د. صلاح أبونار -

احتل البحث العلمي في مسيرة النهضة العمانية، مكانة مركزية منذ انطلاقتها الأولى. ولا يبدو هذا فقط في مكانة التعليم الاستثنائية في برامجها، بل في حقيقة مثيرة للدهشة تتعلق بتطورات المؤسسة التعليمية، في العامين الأولين لانطلاقة مسيرتها.

يخبرنا تقرير «سلطنة عمان: الوضع الراهن للتعليم» الصادر في ديسمبر 1972، وأعدته بعثة لليونيسكو زارت السلطنة خلال أكتوبر 1972، بما نعرفه جميعًا بشأن تطور التعليم العماني الأولي في تلك الفترة، أي ارتفاع عدد المدارس من ثلاثة مدارس تضم 900 طالب كلهم ذكور عام 1969-1970، إلى 73 مدرسة تضم 22233 طالبًا و4504 طالبات في عام 1972-1973. لكنها تضيف إن عمان خلال فترة الزيارة كان لديها 253 طالبا، يدرسون في جامعات 17 بلدا عربيا وغربيا، في تخصصات الطب والهندسة والعلوم والزراعة والقانون والفنون والتجارة. وهو أمر مثير للتساؤل. فهذه الفترة لم تعرف المدارس الثانوية، ولم تعرف الإعدادية إلا من 1972-1973، وكان عدد طلابها 124 طالبا توزعوا بين الصفين الأول والثاني. من أين جاء هؤلاء؟ لم يخبرنا التقرير، ولكن التفكير المنطقي يرجح التفسير التالي:

أبناء أسر عمانية انتقلت إلى بعض الدول العربية وأنهوا هناك دراستهم الثانوية، ثم عادوا مع انطلاقه المسيرة لينطلقوا معها للدراسه في الخارج. أو التفسير التالي: أبناء الأسر ذاتها الموجودة بالخارج، وبعد انطلاقة النهضة حلت بتلك البلدان الوفود التي كانت ترسلها الدولة الجديدة الفتية تطالب أبناءها بالعودة للمشاركة في البناء، وهناك اكتشفوا وجود أبنائهم المؤهلين للدراسة الجامعية.

تكمن أهمية الواقعة السابقة في دلالتها الساطعة على عمق الوعي المبكر بأهمية العلم والبحث العلمي. وسيجد هذا الوعي ما يدعمه ويكسبه عمقا في قوتين محركتين: الأولى عامة وتتعلق بطبيعة التطور الاقتصادي المعاصر، تطور يقوم على تداخل عالمي عضوي ومتصاعد، ويستمد قوته المحركة الأساسية من الثورة العلمية والاتصالية. والثانية خاصة بالاقتصاد العماني، وتتعلق بطبيعة المورد الاقتصادي النفطي، محدود الاحتياطي وبالتالي المؤقت زمنيًا، والمتقلب و المتراجع في عوائده المالية بفعل متغيرات السوق العالمي. وهو ما يفرض سعيا للتنويع الاقتصادي، لن يحقق هدفه إلا عبر سياق محفز للتطور العلمي والتكنولوجي.

وستعثر تلك القوى المحركة على سياقها الذاتي العام المناسب في ثلاثة سياقات فرعية.

سنجد الأول في نشأة وتطور الجامعات العمانية في عام 1986 تأسست جامعة السلطان قابوس، وعندما نصل إلى عام 2009 سنجد أمامنا شبكة تعليم جامعية واسعة، تتكون من 57 مؤسسة تعليمية.

وستسعى الجامعات العمانية إلى تحفيز دورها كمرتكز للبحث العلمي عبر عدة مسارات. تطوير الجودة التعليمية من خلال نظامين: النظام المطور لاعتماد مؤسسات التعليم العالي، والشبكة العمانية للجودة التعليمية. والسعي للربط الوثيق بين أنشطتها البحثية واحتياجات التنمية والمجتمع. وتأسيس شراكة بحثية مع شركات القطاع الخاص، مثل الاتفاق بين جامعة السلطان قابوس وشركة أسمنت عمان.

وسنجد السياق الثاني في بدايات وعي شركات القطاع الخاص بدورها في التطور العلمي. وكما يخبرنا تقرير الأونكتاد «متابعة سياسة الابتكار العلمي: عمان» الصادر عام 2015، أن مشاركة الشركات العمانية تتسم في التطوير العلمي بالمحدودية الشديدة إلا أن هذا الوضع شهد مؤخرًا تغيرات، من المحتمل أن تكون بدايات تحول نوعي في هذا الصدد. وتمثل ذلك في إطلاق مشروع المكتبة العلمية الافتراضية «مصادر»، الهادف، والذي شاركت فيه شركة عمانتل للاتصالات تقنيًا وتمويليًا بالنصيب الأساسي.

وسنجد السياق الثالث في تأسيس مجلس البحث العلمي عام 2005. تأسس المجلس كهيئة عليا لوضع استراتيجيات التطوير العلمي وسياساتها التنفيذية، وكمنسق وطني بين مختلف الهيئات العلمية، وكسلطة لتوفير وإدارة التمويل البحثي. وهكذا اطلق عدة برامح لدعم البحوث: برنامج المنح البحثية الاستراتيجية الموجهة ويشمل سبعة برامج فرعية، وبرنامج المنح البحثية المفتوحة ويغطي 6 قطاعات بحثية، وبرنامج دعم بحوث الطلاب، وبرنامج الكراسي البحثية، وبرنامج دعم بحوث الخريجين. واطلق عدة مشروعات استراتيجية: مجمع الابتكار بمسقط، ومشروع مصادر، والشبكة العمانية للبحث والتعليم، ومشروع المكتبة الالكترونية، وبرنامج حساب مؤشرات العلوم والتقانة. وبالتوازي مع ما سبق ساهم في عقد ندوات علمية عديدة في عمان، مثل: حلقة العمل الدولية حول منظومة الابتكار 2016 بالتعاون مع الاونكتاد، وحلقه العمل حول تفعيل نظام وطني لنقل التكنولوجيا 2017 بالتعاون مع الإسكوا.

في بيانات رسمية مصدرها مجلس العلوم، جاء أن عدد برامج الدكتوراه مردودًا إلى كل مليون نسمة كان 1 في عام 2007، وارتفع إلى 484 عام 2011. وفي العامين نفسهما وعبر الارتباط نفسه، ارتفع عدد الباحثين من353 إلى 484، ومن المستهدف ان يصل إلى 3827 عام 2020. وارتفع عدد المنشورات العلمية من 47 إلى 113 والمستهدف 728. وارتفع عدد براءات الاختراعات من 0.08 إلى 5.2 والمستهدف 1.34.

وارتفعت نسبة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الدخل القومي، من 0.17% إلى 0.3% والمستهدف 2%.

وهو تطور ضخم بالتأكيد، إلا أنه يظل اقل من الإمكانيات العمانية المؤكدة. وهذه الفجوة بين الإمكانيات والنتائج ظاهرة طبيعية تمامًا، ليس فقط داخل المجتمعات الانتقالية الصاعدة، بل أيضا داخل المجتمعات المتطورة. ولكن الوعي ورصد التفاوت داخل نسق الإمكانيات نفسة، يظل ضرورة من اجل تخطيها وتقصير أمدها.

وتحت أيدينا ثلاثة تقارير عالمية: تقرير التنافسية العالمية لعام 15-2016، وتقرير مؤشر الابتكار العالمي لعام 2015، وتقرير الأونكتاد عن عمان الذي أشرنا إليه. بماذا تخبرنا تلك التقارير؟ سنركز على مؤشر الابتكار العالمي، مع الاستعانة بأرقام مؤشر التنافسية، ثم سنلجأ لدراسة الأونكتاد للاستعانة بتحليلاتها وحلولها.

يرتب مؤشر الابتكار العالمي الدول وفقا لثلاثة معايير: مدخلات الابتكار، وكفاءة الابتكار، والترتيب العام.

يقصد بمعيار المدخلات العوامل المؤثرة على قوة الابتكار، وتنقسم لثلاث مجموعات: المؤسسات، ورأس المال البشري والبحث، والبني الأساسية، وتنوع السوق وتنوع بيئة الأعمال. وكل منها يتكون من ثلاثة مجموعات فرعية. وفقا للترتيب العام للدول احتلت عمان المرتبة 68، وهو ترتيب متوسط إذا أخذنا في الاعتبار أن عدد الدول 140 دولة. ولكنه ترتيب مضلل نسبيًا، حيث التباينات الحادة داخلة. يتكون معيار المؤسسات من ثلاثة عناصر: البيئة السياسية والبيئة التنظيمية وبيئة الأعمال.

ووفقا له تقدمت عمان لتحتل موقع الدولة 44، وهو موقع جيد جدًا. ومن منظور عربي مقارن وفقًا لأرقام ذات المصدر عام 2013، حققت عمان 72 درجة من مائة بينما حققت لبنان 58 درجة والكويت 70 وقطر 61 والإمارات 58. وحققت السعودية 74 درجة، أي إنها سبقت عمان بدرجتين فقط. وهنا نلاحظ أن تقرير التنافسية الدولية، يمنح عمان مرتبة أكثر تقدما بالنسبة للمؤسسات، فيضعها في المرتبة 31. وفيما يتعلق بعنصر رأس المال البشري والبحث، تراجع ترتيب عمان الى المرتبة 68 وفقا لمؤشر 2015، لكنه عاود التقدم في عنصر البنى الأساسية ليصل إلى المرتبة 48، ويحتل العنصر نفسه المرتبة 36 وفقًا للتنافسية.

إلا أن المشكلة العمانية تبدأ مع العنصرين الأخيرين من المدخلات. فهي على مستوى تنوع السوق تتراجع للمرتبة 108، ثم تواصل التراجع على مستوي تنوع بيئة الأعمال للمرتبة 128. لكن هنا نلاحظ أن تقرير التنافسية، آخذين في اعتبارنا الخصوصيات المنهجية، يرفع البيئة الاقتصادية العمانية الكلية إلى المستوي 19، وتطور الأسواق المالية إلى 45، وتعقد الأعمال إلى 71.

وفي مقابل المدخلات هناك المخرجات، وتعني تأثير المدخلات على المعرفة العلمية ونتاجها الابتكاري. وفقا للترتيب العام احتلت عمان المكانة 86.

تتكون المخرجات من عنصرين، ينقسم كل منهما لثلاثة عناصر. الأول المعرفة والتكنولوجيا وترتيب عمان هنا 84، لكنه ترتيب يتفاوت في عناصره الداخلية، فتتقدم إلى المرتبة 51 في عنصر انتشار المعرفة، ثم يتراجع عنصر تأثير المعرفة إلى 82 ، ليتواصل التراجع في توفير المعرفة إلى 112. والثاني هو المخرجات الابتكارية، وتحقق فيه عمان مكانه افضل من العنصر الثاني حيث تصبح الدولة 71.

والحاصل أن هناك فجوة بين المدخلات والمخرحات مقدارها 20 درجة. ومع ذلك يعتبر موقع عمان من المنظور العربي المقارن جيدًا، فهي من حيث المدخلات تتقدم لبنان والأردن وتونس والكويت والمغرب والهند ومصر والجزائر، لكن السعودية وقطر والإمارات يسبقونها. ولكن التفوق الإقليمي العماني يتراجع نسبيًا على مستوى المخرجات، فهي تسبق الإمارات ولبنان وقطر والمغرب والجزائر والسودان ، ولكن السعودية والكويت والأردن ومصر يسبقونها بدرجات متفاوتة.

سعت مقترحات تقرير الأونكتاد لعلاج تلك الفجوة. تقترح في المجال الاقتصادي ضرورة السعي نحو التنويع، وتشجيع نمو الشركات المتوسطة والصغيرة لتعزيز الديناميكية الاقتصادية، وضبط نمو دور الدولة كموظف عام من أجل نشر روح المبادرة الاقتصادية وتقليل الاتجاه العام نحو الاستثمار الآمن التجاري والعقاري، والسعي لتغيير الهياكل الإدارية في الشركات لتصبح اقل هرمية ودعما للمبادرة والإبداع.

ويقترح في المجال التعليمي الجامعي السعي لكبح التوسع المفرط للتخصصات الإنسانية بالمقارنة بالعلمية، وتقوية الصلات العضوية بين الشركات والجامعات لتعزيز قدرات الطلاب الابتكارية، وبناء تصور لربط التعليم قبل الجامعي بالاحتياجات التنموية. ويثمن الوضع المؤسسي للدولة العمانية، لكنة يطالبها ببناء ونشر منظومة قيمية عامة، تعلي من قيم الإلهام والقيادة والمبادرة والهوية الوطنية، وربط سياسة التعمين بحزمة من السياسات التأهيلية للعمانيين.