أفكار وآراء

«درهم وقاية خير ...»

16 أكتوبر 2017
16 أكتوبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

التقارير العالمية التي تصدر من منظمات عالمية لها وزنها في البحث العلمي، يجب أن تقابل بالكثير من الاهتمام، وأخذ نتائج دراساتها مأخذ الجد، لأنه كما هو المثل المعروف: «درهم وقاية؛ خير من قنطار علاج»

تفرض الحياة الحديثة على الناس شروطها وسلوكها المعبر عن حقيقة الأداة المكونة لها، وهي الأداة الفارضة نفسها بحكم الحاجة وبقوة الاستخدام، ولذلك ينصاع الناس لها؛ استحبابا أحيانا، وإجبارا في أحايين كثيرة، فتنقلك بالمركبة بين مسافات قصيرة لا تتعدى مسافة الكيلو متر الواحد، ليس إجبارا؛ وإنما استحبابا، بينما تنقلك لمسافات تتجاوز العشرات من الكيلو مترات، فهنا تنتقل من مرحلة الاستحباب الى مرحلة الإجبار، ومن الملاحظ أن معظم تحركاتنا بالمركبة يقع في خانة الإجبار، وكما يقاس على تنقلاتنا بهذا المثال، يقاس مكوثنا الطويل في المنزل، أو في المكتب أمام جهاز الحاسوب على نفس هذه الصورة بين الاختيار او الإجبار، فبعض الأعمال تجبر ممتهنيها الى الجلوس لساعات طويلة أمام جهاز الحاسب الآلي، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، وما أود الوصول إليه من هذه المقدمة المختصرة، هو أن سلوك حياتنا اليومي أصبح ينظر إليه بشيء من الاهتمام عند الحديث عن الصحة وعن السمنة، وعند الحديث عن أمراض العصر مثل: السكري والضغط، وعند الحديث عن البدانة، وعند الحديث عن الأندية الصحية، وعند الحديث عن اهتمام الناس بالرياضة، فالسلوكيات الآنفة الذكر، وغيرها هي التي يعول عليها الوقوع في مأزق الوقوع في مطب الأمراض، وهي المعول عليها للخروج من ذات المأزق، لأن المسألة في جانبيها آخذة في الزيادة، وآخذة في الاهتمام؛ أكثر من ذي قبل، عندما كان الناس يعيشون على فطرتهم الأولى، قبل أن تتعارض في سلوكيات حياتهم اليومية الكثير من المستجدات الذاهبة كلها الى ضعف البنية البدنية، وما أنتج ذلك من ضعف عام يدفع الإنسان الحديث اليوم ضريبته من صحته، وحالته النفسية والجسمانية.

قبل بضعة أيام كنت استمع الى إحدى الإذاعات غير المحلية، وتصادف أن يذاع تقرير لمنظمة الصحة العالمية، وهو التقرير الذي يتحدث عن النمو السريع للبدانة على مستوى العالم، ومما جاء في هذا التقرير - بتصرف -: أشارت دراسة حديثة أجرتها منظمة الصحة العالمية الى أن معدل البدانة ازداد على مستوى دول العالم ضعف ما كان عليه قبل أربعين سنة، وأكدت الدراسة - حسب المصدر - على أنه قبل هذه الفترة كان عدد البدناء على مستوى العالم، بلغة الأرقام، نحو (10) عشرة ملايين إنسان، أصبحوا اليوم (120) مليونا على مستوى العالم، موضحة الدراسة ذاتها أن قبل هذه الفترة (الأربعين عاما) أيضا هناك دول كانت تعاني من الفقر، أصبحت منضمة الى الدول التي يشار اليها بارتفاع نسبة البدانة بين سكانها، كما بينت الدراسة أن حالات البدانة متمركزة أكثر في الفئات العمرية الصغيرة؛ الأطفال والمراهقين، اكثر من أية فئات أخرى» - انتهى.

يقينا؛ أن مثل هذا التقرير يذهب الى قرع جرس الإنذار، ليس فقط للأسرة في أي مجتمع، ولكن أيضا، وهي المهم هنا، الى الدول كلها بهيئاتها المعنية بالصحة في المجتمع، لأن البدانة معناها مرض، والأمراض الملحقة بالبدانة كثيرة، ويأتي في مقدمتها أمراض السكري، والضغط، وهي أمراض تقتطع من موازنات الدول المادية الشيء الكثير، فوق أنها أمراض ليست موقوتة بفترات علاج محددة، فهي من الأمراض المزمنة كما هو معلوم، ونموها وتكاثرها ليس محصورا، كما هو الشائع، على كبار السن فقط، فهي اليوم تنتشر انتشار النار في الهشيم على مختلف الأعمار، وحتى الأطفال الصغار الذين لم تتجاوز أعمارهم العشر السنوات الأولى، وهي ظاهر ملموسة في المجتمع كما نعرف، وهناك أسر كثيرة بدأت تقلقلها هذه الظاهرة غير المعتادة في هذه المراحل المبكرة جدا في اعمار الطفولة الغضة.

ينظر في أسباب انتشار البدانة بهذا النمو السريع بين سكان الكرة الأرضية الى سبب رئيسي، وهو انتشار الوجبات السريعة على مستوى العالم، وهي الوجبات التي تروج لها اكثر وأكثر الشركات متعددة الجنسيات فيكاد في شبه العدم أن لا تجد مطاعم الوجبات السريعة غير موجودة في دولة ما، ومن تجربة شخصية، فقد زرت قبل سنوات قليلة إحدى الدول الإفريقية في شرق إفريقيا، وهي من الدول المحسوبة على الدول الفقيرة نسبيا، وتوغلنا في مناطق بعيدة عن العاصمة ، حيث مررنا على قرى تعيش حالة متواضعة كما يظهر من حالة أبنائها، ومع ذلك تحمل محلات مطاعمها الصغيرة مسميات هذه الوجبات السريعة بأنواعها المعروفة، فليتخيل أحدنا مدى انتشار هذه المطاعم؛ أولا، ومدى الاهتمام الذي يبديه الناس بها ثانيا، ومدى قدرة هذه الشركات على التوغل في أدغال هذه الدول الإفريقية، كمثال عالمي، وغيرها من الدول ثالثا، حتى أصبحت هذه الوجبات السريعة على لسان كل إنسان في أي مكان يعيش فيه، وأصبحت علامتها التجارية من الصور العالقة في الذهن بشكل دائم، وهي العلامة التجارية المرفرفة على أجنحة الذاكرة الطفولية اكثر واكثر، نظرا لتحول نوعي في الذائقة لدى الأطفال بشكل واضح، ولعل مكمن الخطر هنا أكثر، لأن الأجيال عندما تتربى على سلوك معين، يظل هذا السلوك مصاحبا لها الى آخر العمر، والسلوك الغذائي؛ عادة؛ يأتي في مقدمة أي سلوك اجتماعي آخر، لارتباطه بالشهية وملء المعدة. وليس خاف على أحد مدى الضرر الذي تسببه هذه الوجبات السريعة على الصحة العامة على الناس، وهناك تقارير صحية يعدها متخصصون في الغذاء؛ يؤكدون الأضرار المباشرة على صحة الفرد من الإدمان على هذا النوع من الغذاء، ولذلك هم يحذرون من الاستمرار على تناولها بصورة دائمة، وذلك لعدم تحققها من احتوائها على العناصر الغذائية الكاملة، بعكس الوجبات التي تعد في المنازل من المواد الطبيعية المباشرة، ولذلك تؤكد هذه التقارير أن سبب المباشر للبدانة على مستوى العالم هي هذه الوجبات السريعة، فوق أضرارها الجانبية الأخرى، كالأضرار الاقتصادية لارتفاع أسعارها مقارنة بتكلفة الوجبة التي تعد في منزل الأسرة، يضاف الى ذلك البعد الاجتماعي في هذا الجانب، حيث تشجع هذه الوجبات على الفردية والانزواء، بعيدا عن روح الجماعة وتقاربهم والتفاتهم تجاه بعضهم البعض.

تصنف البدانة اليوم على أنها أحد أمراض العصر الشائعة، ولذلك هناك جهود مبذولة للحد من تفاقمها، سواء على مستوى الأفراد أنفسهم الواقعون في نفس المشكلة، او من قبل الجهات المعنية، والتي يقتصر دورها حتى الآن في المكافحة من خلال رسائل التوعية، فقط، والمسألة في استفحالها بهذا المستوى وعلى المستوى العالمي، لم تعد برامج التوعية هي الكفيلة بالحد منها، فلا بد من تبني برامج صحية مباشرة لمكافحة هذه الظاهرة، صحيح أن الأفراد الواقعين في المشكلة، وغيرهم من المستشرفين أفقها القادم يبذلون جهودا واضحة للحيلولة دون وصولها اليهم، ومن ذلك الاشتراك في الصالات والأندية المعنية بالرشاقة ومكافحة السمنة، وهذه الصالات على وجه الخصوص تنتشر اليوم وتمثل مشكلة ظاهرة تحتاج الى وقفة موضوعية للبرامج التي تقدمها، والى المواد الغذائية التي تنصح مشتركيها بتناولها، وهناك أيضا من يقدم على عمليات لربط المعدة، وهو سلوك شائع اليوم لدى كثير من الناس الذين يعانون من السمنة، بالإضافة طبعا الى ما تمت الإشارة إليه في المقدمة. أختم هنا بالقول: إن هذه التقارير العالمية التي تصدر من منظمات عالمية لها وزنها في البحث العلمي، يجب أن تقابل بالكثير من الاهتمام، وأخذ نتائج دراساتها مأخذ الجد، لأنه كما هو المثل المعروف: «درهم وقاية؛ خير من قنطار علاج» وهذا المثل ينطبق على كل موضوع من موضوعات الحياة، على الصحة وغير الصحة، هذا فيما يخص مستوى الاهتمام عند كل دولة على حدة، اما فيما يخص الأفراد، فإنه آن الأوان اكثر من ذي قبل الى التنحي عن السلوك الغذائي المفضي الى مثل هذه ا لنتائج، لأن تكلفة فاتورة العلاج بعد ذلك ثقيلة ماديا ومعنويا، وكما هي الحكمة دائما: «العقل السليم؛ في الجسم السليم» ولم يعد هناك وقت لأن نعوض فيها ما يذهب من أجسامنا وأولها صحتنا، فالصحة - كما توصف - «تاج على رؤوس الأصحاء» ومن يخلع هذا التاج بإرادته الكاملة فليتحمل ما سوف تؤول إليه الأمور بعد ذلك، فانعدام الحركة الميكانية بصورة مطلقة لم يعد خيارا موفقا للاسترخاء والراحة، ومجموعة الظروف التي نتعلل بها لإرضاء أنفسنا عن إجهادها قليلا، لا يجب ان تستمر، أكثر من النقطة التي نقف عليها الآن، فالهمة الهمة، فكل الساحات مفتوحة لعقد صفقة رابحة من المشي (السير بالإقدام)؛ على أقل تقدير.