أفكار وآراء

انفصال كتالونيا.. والخروج من دوامة الصمت

16 أكتوبر 2017
16 أكتوبر 2017

أ.د. حسني نصر -

اليوم - الاثنين- تنتهي المهلة التي منحتها الحكومة الإسبانية لإقليم كتالونيا الراغب في الانفصال، لتحديد موقف واضح من إعلان استقلاله عن المملكة الإسبانية، بعد الاستفتاء الذي أجرته حكومة الإقليم مطلع الشهر الجاري دون موافقة مدريد، ورغم إلغائه من جانب المحكمة الدستورية العليا واعتباره غير شرعي.

اليوم إذن ستكون أوروبا والعالم على موعد مع التاريخ، إذ قد يمثل هذا اليوم حدا فاصلا بين ما قبله وما بعده، فإما أن تدخل إسبانيا في صراع قد يتطور إلى حرب مع الإقليم لإرغامه على البقاء ضمن حدود المملكة، أو أن يتم إلغاء الاستفتاء وتجميد نتائجه من جانب الإقليم والاكتفاء من الغنيمة بالإياب، خاصة بعد أن أكد الملك فيليب الخامس أن العرش والحكومة في مدريد لن يتفاوضوا مع زعماء الانفصال، وانتظار فرصة أخرى ووقت آخر تكون فيه أوروبا أكثر تسامحا مع التطلعات القومية الانفصالية لأقاليم عديدة في دولها.

كان من الممكن أن يمر كل شيء بهدوء شديد عقب توقيع رئيس حكومة إقليم كتالونيا ونواب البرلمان ليلة الثلاثاء الماضي على الاستقلال الرمزي - وفق تعبير المتحدث باسم الإقليم - عن مملكة إسبانيا، وان يتفرغ للاستعداد لمواجهة الحكومة المركزية في مدريد وأوروبا كلها الرافضة للانفصال. كان من الممكن أن يحدث ذلك لولا أن معارضي الانفصال داخل الإقليم نفسه خرجوا عن صمتهم، وأعلنوا عن أنفسهم، فتغيرت الكفة إلى حد كبير، لدرجة جعلت رئيس الإقليم “ كارلس بوتشدمون كازاماجو “ يعلق إعلان الاستقلال بدعوى إفساح المجال أمام المفاوضات مع الحكومة المركزية.

لم يكن يخطر ببال الرئيس ومؤيدي الانفصال الذين صوتوا لصالحه بنسبة 90% أن تأتيهم المعارضة أيضا من الداخل الكتالوني، وتحديدا من الكتلة الكبيرة الصامتة من الذين لم يذهبوا للتصويت، والذين تصل نسبتهم إلى نحو 57 بالمائة من إجمالي الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية. هؤلاء الصامتون تحت ضغط المد الشعبوي القومي الجارف المؤيد للانفصال آثروا أن يلزموا الصمت قبل وأثناء الاستفتاء الذي شهد صدامات عنيفة بين قوات الشرطة الإسبانية وبين الانفصاليين، إلا انهم جهروا برفض الاستفتاء ورفض الانفصال عن إسبانيا بعد إعلان النتائج، وبعد أن أعادوا قراءة مناخ الرأي العام في الإقليم، وأعادوا تقدير حجمهم بعد أن عرفوا أن نسبة الذين ادلوا بأصواتهم لم تتجاوز 43 بالمائة من سكان الإقليم الذين لهم حق التصويت. بعد صدمة الاستفتاء استيقظ أكثر من نصف سكان الإقليم الصامتين على حقيقة أن الأمر جدي، وان استمرار صمتهم لم يعد مبررا بعد أن أصبح مستقبلهم وأمنهم واستقرارهم على المحك، ولذلك بدأوا في الكلام والتعبير صراحة ودون خوف عن آرائهم المناهضة للانفصال، شجعهم على ذلك الموقف الحازم الذي اتخذته مدريد من جانب ومواقف الدول الأوروبية الكبيرة من جانب آخر. وخلال الأيام الأخيرة بدا الأمر أن معارضي الانفصال هم الأغلبية وليسوا أقلية بأي حال بالنظر إلى قيام الملايين منهم بالخروج في مسيرات في الشوارع، إلى جانب استخدام شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات ومواقع الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون للجهر بآرائهم، والكشف عن مخاوفهم الحقيقية والمشروعة من أن يؤدي إعلان استقلال الإقليم إلى اندلاع أعمال عنف ووقوع ضحايا وتدمير حياتهم ومستقبلهم وأسلوب معيشتهم لسنوات، خاصة بعد أن بدأت شركات وبنوك كبرى في الخروج من الإقليم متجهة إلى مدريد، وبعد أن تأثرت السياحة التي تعد مصدر الدخل الأساسي للإقليم بشكل واضح. هؤلاء الذين تخلوا عن صمتهم قلبوا المعادلة وأصبحوا هم الأغلبية التي تحاول الخروج من أسر طغيان الأقلية الانفصالية. لقد أدرك هؤلاء أن صمتهم يضفي شرعية على شعارات المطالبين بالانفصال، ولذلك أعلنوا رفضهم فكرة الاختيار بين أن يكون المواطن كاتلاني او أسباني، واختاروا أن يجمعوا بين القوميتين في نفس الوقت، ولذلك تحولت الغلبة في مسيرات الشوارع لمؤيدي البقاء على حساب مؤيدي الانفصال، وارتفعت أعلام إسبانيا بصورة أكبر في شوارع برشلونة عن ذي قبل وهو ما يشير إلى تغير ملموس في موازين القوى.

ومع معارضة الحكومة الإسبانية للانفصال وتهديدها باتخاذ إجراءات استثنائية ومنها إعلان حالة الطوارئ في البلاد وتطبيق المادة 155 من الدستور التي تسمح للحكومة المركزية بحل المؤسسات السياسية في كتالونيا، ومنها البرلمان الذي وافق على الاستفتاء غير الشرعي، والحكومة الإقليمية التي أجرت الاستفتاء، وإخضاع قوات الشرطة المحلية لها والسيطرة على الإذاعات العامة، وكذلك المعارضة الأوروبية للانفصال وتأكيد القوى الأوروبية الكبرى مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا رفضها انفصال كتالونيا وعزمها عدم قبول الدولة الجديدة- في حال قيامها- في الاتحاد الأوروبي، فإن ما حدث في كتالونيا بعد الاستفتاء يكشف لنا جانبا مهما في إدارة الصراعات السياسية في العالم، خاصة تلك التي تتعلق بانفصال أقاليم عن الدولة الأم.

في كل تجارب الانفصال تقريبا ينقسم الرأي العام داخل الإقليم بين مؤيدين لاستقلال الإقليم وبين معارضين لذلك، او إن شئت سمهم مؤيدين أيضا ولكن للبقاء ضمن الدولة الوطنية. في الغالب وباستثناءات قليلة يكون صوت المؤيدين للانسلاخ عن الدولة هو الأعلى والأكثر صخبا اعتمادا على عمليات الدعاية وغسيل المخ التي يمارسها زعماء الانفصال على مدى سنوات طويلة، والترويج المستمر لمظالم تعرض لها الإقليم او لحقوق تم هضمها من جانب الدولة المركزية او لاختلافات عرقية او دينية أو مذهبية او لغوية يعمل الانفصاليون باستمرار على تعزيزها والمتاجرة بها. في هذه الحالة ومع تصاعد المد القومي في الإقليم فإن مؤيدي البقاء ضمن الدولة القومية وبناء على قراءة أولية لمناخ الرأي العام يعزفون عن التعبير عن رأيهم خشية تعرضهم للأذى الفعلي على أيدي الانفصاليين، او بالأقل خشية الشعور بالعزلة أو النبذ من جانب التيار القومي الشوفيني الغالب.

هذه الحالة التي شهدناها في كل استفتاءات الانفصال التي جرت في السنوات الأخيرة من جنوب السودان إلى الأكراد في العراق، مرورا باستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي واستفتاء انفصال إسكتلندا عن المملكة المتحدة، تؤكد صحة نظرية دوامة الصمت التي وضعت فرضياتها عالمة الاتصال الألمانية الشهيرة اليزابيث نيومان في مطلع سبعينات القرن العشرين للبرهنة على ضرورة عدم الثقة في الرأي العام وحتمية الشك فيه، على أساس انه يتم تشكيله وتصويره لخدمة أهداف من يتحكم في الدعاية وفي وسائل الإعلام. ولذلك عندما يقال إن الرأي العام في إقليم ما يؤيد الانفصال عن الدولة فان علينا أن ننتظر حتى نسمع من الطرف الأخر أو القطاع الآخر الصامت من الرأي العام، الذي يمكن أن يغير معادلة الأغلبية والأقلية إن خرج عن صمته. وفي الحالة الكتالونية يتضح بجلاء أن الثراء الذي أحدثته وسائل الإعلام الجديدة قد شجع بالفعل من كانوا يظنون انهم أقلية على الظهور والخروج من صمتهم والتعبير عن آرائهم، وبالتالي التحول إلى أغلبية وهو ما أربك دعاة الانفصال في كتالونيا، وقد يدفعهم اليوم إلى التراجع وإلغاء الاستفتاء والبقاء ضمن مملكة إسبانيا.