أفكار وآراء

الاستحقاقات الغائبة في الترويج لاستئناف عملية السلام

14 أكتوبر 2017
14 أكتوبر 2017

د. عبدالعاطي محمد -

من كثرة تداولها دون وجود مؤشرات من الواقع تؤكد إمكانية تحققها، لم تعد عبارة الفرصة التاريخية للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين موضع مصداقية، وضاع المعنى الحقيقي لها، لتصبح عنوانا مثيرا وجذابا لا يخرج عن كونه بابا من أبواب الأمنيات الطيبة لا أكثر.

لقد ترددت هذه العبارة القديمة الجديدة مرارا وتكرارا في الخطاب العربي والفلسطيني، والأمريكي أيضا، منذ عام 1992، ولكن سرعان ما كان يطويها النسيان، واليوم عادت إلى صدر الأحداث مجددا في ضوء الجولة الجديدة للمصالحة الفلسطينية، دون تغير في الموقف الإسرائيلي، ووسط أفكار أمريكية لا تزال في الأدراج، لا يبدو منها على السطح سوى الوعود.

لا أحد في المنطقة العربية لا يتمنى النجاح للمصالحة الفلسطينية، ولا أحد يعترض على ظهور أي فرصة تاريخية لإحلال السلام في الشرق الأوسط لأنه فرصة عربية وفلسطينية قبل أن يكون فرصة لإسرائيل وحلفائها. فالشعب الفلسطيني شعب واحد على مدى التاريخ، وفلسطين حقيقة تاريخية وأرض عزيزة على كل عربي ومسلم منذ مهبط الأديان، ومن ثم فإن الانقسام استثناء أوجدته خلافات سياسية على كيفية استعادة الحقوق الفلسطينية الضائعة وبناء الدولة المنشودة وإدارة السلطة فيها، وليس بالطبع على تمزيق الوحدة التاريخية لهذا الشعب ولا على التفريط في الثوابت. ولا أحد يقبل بالمعاناة التي ترتبت على الانقسام منذ 2007. فقط إسرائيل هي التي كانت المستفيد الوحيد من هذا الانقسام، خصوصا أنها فرضت حصارا على غزة لتعميقه ولزيادة معاناة أبناء القطاع.

لقد حدث الانقسام من قبل نتيجة الخلاف بين فتح وحماس على السلطة في القطاع، وعلى عملية السلام ذاتها بين السلطة الفلسطينية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حيث كانت حماس بوصفها حركة مقاومة ترى أنها، وفقا للمعطيات والتحركات التي ارتبطت بها منذ اتفاقية أوسلو 1993، شكلت تنازلات فلسطينية لم تقابلها تنازلات إسرائيلية، بل على العكس جعلت الموقف الفلسطيني في عملية السلام ضعيفا ومرهونا بما تقرره السياسة الإسرائيلية والأمريكية. والآن قطعت المصالحة نصف الطريق وجزئيا أيضا بعد أن ألغت حماس اللجنة الإدارية وعادت حكومة الوفاق إلى غزة، ومن شأن ذلك تخفيف الحصار وليس إلغاؤه لأن الطرف الرئيس في وجوده هو إسرائيل التي لم ترحب بالطبع بهذه المصالحة في جولتها الجديدة. ولا شك أن تخفيف الحصار يفتح الطريق أمام الفرص المستدامة للمصالحة، خصوصا أن السلطة الفلسطينية ذاتها كانت قد دخلت شريكا في هذا الحصار على خلفية المواقف والعناد مع حماس. ولإثبات حسن النيات واستعادة الثقة فإنه كلما دفعت السلطة في اتجاه رفع الحصار أو تخفيفه عن القطاع، زادت فرص النجاح للمصالحة والعكس صحيح.

وليس خافيا أن ملف المصالحة لا يقف عند مشكلة من يدير السلطة في القطاع، وإنما هناك قضايا أخرى في هذا الملف ستظل موضع شد وجذب بين الطرفين خصوصا فيما يتعلق بإدارة المعابر والأمن وعودة الخدمات الرئيسية ومشكلات الموظفين. ويظل الملف الأمني عقبة يمكن أن تعيد عقارب المصالحة إلى الوراء مجددا!، فكما وضح من تصريحات قيادات الطرفين حتى الآن فإن حماس لا تعترض على أن تكون المسؤولية الأمنية المعتادة في يد الحكومة، ولكن ترى أن هناك سلاحين أحدهما للحكومة لضبط الأوضاع الأمنية حتى لو تم تطبيق ذلك على المعابر، وسلاح آخر هو سلاح المقاومة الذي لا تفريط فيه بحكم أن الحركة قامت أساسا لتكون حركة مقاومة طالما الاحتلال لا يزال قائما. بالمقابل يقول القيادي الفتحاوي جبريل الرجوب إنه طالما يتم الاتفاق على أن تكون هناك سلطة واحدة وحكومة واحدة في القطاع، فلابد من سلاح واحد.

وبافتراض توصل الطرفان إلى تفاهمات حول القضايا الخلافية السابقة، وهو أمر يظل نجاحه مرهونا فقط بالنيات الطيبة من قيادات الطرفين وصدق تأكيداتهما بأن تداعيات السنوات العشر الماضية لا يجب أن تستمر بأي حال من الأحوال، فإن الشق الثاني من الخلاف لا يزال قائما، وإن كان قد ظهرت بعض بوادر الانفراج فيه، إلا أنها ليست كافية. وهو الشق المتعلق بعملية السلام ذاتها. وهنا فإن حماس لم تعلن مطلقا أنها تخلت عن اعتراضها الاستراتيجي على الطريقة التي تتم بها عملية السلام سواء من جانب السلطة الفلسطينية أو غيرها. ولكن حدث تطور في رؤية حماس كان وراء الترويج مجددا لعبارة الفرصة التاريخية، وذلك عندما أجرت الحركة تغييرا في ميثاقها تضمن موافقتها على إقامة دولة فلسطينية على حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967. كما أكدت الحركة على لسان مسؤوليها أنه لا حروب على غزة ولا حروب في غزة. الأمر الأول يعني ضمنا أن حماس وافقت على وجود دولة إسرائيل من ناحية وعلى جوهر عملية السلام من ناحية أخرى، حيث الدعوة إلى حل الدولتين: إسرائيل وفلسطين. والأمر الثاني يعني أن حماس لا تريد أن يكون موقفها المضاد لعملية السلام سببا لا في اعتداءات جديدة من جانب إسرائيل، ولا في تجدد الخصومة السياسية مع السلطة الفلسطينية. ومن جهة أخرى فإن الحركة لا ترغب الآن - ووسط أجواء المصالحة - أن تكون مواقفها من المشاركة في الحكومة حجة عند الإدارة الأمريكية الحالية للقول بأن السلطة الفلسطينية ليست جاهزة لجولة جديدة من المفاوضات مع إسرائيل نظرا للموقف المعروف من جانب واشنطن تجاه الحركة حيث تصنفها على أنها جماعة إرهابية. وتفضل الحركة مبدأ التشاور مع حكومة الوفاق بما يعني من حيث الجوهر سماع رأيها في أداء هذه الحكومة وأية تعديلات فيها دون أن تعطى الفرصة لواشنطن بأن الطرف الفلسطيني يتضمن جماعة هي من وجهة نظرها مضادة لعملية السلام.

إلا أن كل ذلك لا يبرر الترويج لعبارة الفرصة التاريخية الموجهة أساسا إلى الطرفين الإسرائيلي والأمريكي، ومضمونها أن ها هي الحجة التي كنتما تتحججان بها ضد الطرف الفلسطيني المفاوض قد حلت أو لم تعد قائمة، حيث أصبح لدينا طرف فلسطيني واحد متفق على جوهر عملية السلام، وما عليكما سوى ألا تفوتا الوضع الجديد الذي ترتب على المصالحة باعتباره فرصة تاريخية. واقع الأمر أن الحديث حقا عن الفرصة التاريخية لا يكون موضع ثقة ومصداقية لكي تتصف الفرصة بهذا الوصف إلا إذا كانت عليه شواهد مادية على الأرض أي تصرفات مطبقة فعلا على أرض الواقع، وهو ما لا ينطبق على النتائج الأولية التي رشحت عن الجولة الجديدة للمصالحة. لقد أطلق الرئيس المصري الراحل أنور السادات هذه العبارة بعد الانتصار في حرب أكتوبر على إسرائيل بأربع سنوات كاملة، عندما قال أمام البرلمان المصري وفي مواجهة ياسر عرفات الذي كان حاضرا للجلسة إنه مستعد لأن يذهب مع إسرائيل لآخر مدى حتى لو كان ذلك الذهاب إلى عقر دارهم في الكنيست، وعندما حدث ذلك فعلا قال العالم إن هناك فرصة تاريخية لإحلال السلام في الشرق الأوسط التي تمت ترجمتها عمليا في مباحثات كامب ديفيد عام 1978 ثم في اتفاقية السلام أوائل العام التالي.

المشهد الراهن على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لا يتضمن أية علامة على حدوث اختراق في عملية السلام يمكن أن يوصف بالفرصة التاريخية. إسرائيل ردت مبدئيا وسريعا على المصالحة بالرفض، وهو رد فعل متوقع لأسباب معروفة للكافة، ولكن إن كان هناك حديث جاد عن الفرصة التاريخية فمن مؤشراته مثلا أن يذهب نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل إلى رام الله معلنا اعترافه بالدولة الفلسطينية ووقف الاستيطان والدخول في مفاوضات لإنهاء الاحتلال وفق جدول زمني محدد، وأن نجد حماس شريكا في هذه المفاوضات، وأن يكشف لنا الرئيس الأمريكي عن مشروعه لإحلال سلام عادل ودائم بين الطرفين لا أن يظل المشروع خافيا ويتم الاكتفاء بطرح الوعود المبهمة حتى لو تضمن هذا المشروع تنازلات جوهرية من الطرفين، حيث سيعني أن الطرف الإسرائيلي قرر التنازل لأول مرة عن شروطه التي ذهبت بعملية السلام إلى الموت السريري. وبما أن شيئا من هذا غير وارد في الحسبان، بالإضافة إلى أن حماس لم تتراجع عن خيار المقاومة ولن تقبل بإلغاء سلاح المقاومة بغض النظر عن قبولها بإقامة الدولة على حدود 67، فإن استحقاقات الفرصة التاريخية لا تزال غائبة.