المنوعات

هدية

13 أكتوبر 2017
13 أكتوبر 2017

عادل محمود -

في زمن الحرب... من الطبيعي أن تكثر الكوابيس في الليل، كلما خسرت الأحلام في وقائع النهار.

إذا امتدت الحرب حتى يصبح هناك عدد الجرحى في المعارك مساوياً لعدد الجرحى في الأرواح..

من الطبيعي أن يصاب الكثيرون باليأس والعجز والغم الدائم...

ولأن الحرب في سورية امتدت إلى ست سنوات ونصف، حتى الآن... فقد استعنت بمختلف الوسائل

لأجعل الكابوس حلماً، والموت مؤجلاً، والأفراح الصغيرة ممكنة.

من بين «الشطارات» هذه : قررت أن أسهر خارج البيت لوقت متأخر، وأعود في شوارع دمشق التي

لا أحدَ فيها، لا مشاة ولا سيارات. ومن الشطارات أيضاً أن أستمع كل يوم إلى الموسيقى.

وهنا حدثت هذه القصة.

قبل أربعين عاماً أهدتني صديقة شريطاً فيه مقطوعة موسيقى لآلة غريبة شائعة في رومانيا اسمها

«البان فلوت» اشتهرت كثيراً بأصابع العازف العبقري «جورج زامفير».

استمعت سنوات طويلة لهذا الشريط، وكنت كل مرة أسأل نفس السؤال: ما الذي يجعل الموسيقى أداة

خدرٍ آت من لحظة السحر... السحر النفسي، الذي يكسر عتبة التحمل... فيرقص الإنسان، أو يبكي؟

ثم، مع الأيام، لم يعد السؤال مهماً. ففي زيارة إلى رومانيا «شاوشيسكو» الديكتاتور الضاحك، والذي

جعل رومانيا غنية غير مديونة بدولار، بينما الروماني فقير ويشتهي الدولار... في تلك الزيارة

اكتشفت جواب السؤال عن موسيقى زامفير:

في هذه الموسيقى، التي تسحرك، ثمة «توق». نوع أعلى من الرغبة، أبعد من الشوق، أرق من الحلم،

وفي هذا التوق نغمة حزن تعني... أظنها تعني حرفياً: مؤسف ألا يكون العالم أجمل.

اكتشفت، وسررت لأن تأثير هذه الموسيقى، طوال أربعين عاماً حتى الآن كان التوق والخذلان. ولذلك

كنت أفرح وأحزن في كل استماع، عبر هذه السنين، لا سيما وأن التوق والخذلان ارتبطا بذكرى.

أمس... كانت الإضافة الساحرة، في علاقتي بهذه الموسيقى. الفتاة التي أهدتني الشريط (كانت أيام

الكاسيت) على قيد الحياة . فهي من أرسلت على الواتس شريط لحفلة جورج زامفير مع الأوركسترا.

وهي التي اختفت أخبارها منذ أربعين سنة في هجرة غامضة ومؤلمة، باختفاء مؤكد وموت معلن.

إذن أنت على قيد الحياة أيتها الصبية؟ إذن الحرب لديها ما تقوله غير إعلانات الموت. لديها هدايا

من هذا النوع.

أعدت الاستماع إلى هذا الفيديو، وأنا لأول مرة أحس بسرّ تلك السعادة التي سببها لي، وسط الحسرة

والأسف الافتراضيين على موت تلك الصبية. والآن وفت الموسيقى بمصداقيتها في التوق.

ثمة شطط أريد المشاركة به، بمفعول رجعي: لقد اعتقدت، وأنا في زيارة لأماكن ساحرة في رومانيا،

أن من لديه هذه الآلة البسيطة، منتجة التوق بأعلى مراتبه على طريقة جورج زامفير... ستؤثر في أعمق

مناطق الحلم الروماني... وقد تكون ساهمت في سقوط شاوشيسكو. عام1989 !!