1128105
1128105
إشراقات

التربية والتعليم .. ســــفينة نجاة المجتمعات

12 أكتوبر 2017
12 أكتوبر 2017

المعلم القدوة وأثره ..

د. بدر بن هلال اليحمدي -

يظن البعض أن التعليم عملية سهلة يمكن أن يقوم بها أي إنسان، وما دروا أن هذه المهنة من أصعب المهن، لأن القائم بها لا يتعامل مع جمادات ولا مع حيوانات، وإنما يتعامل مع بشر مثله، لهم عقول ومشاعر وتصرفات تحتاج إلى فهم ودراسة وأسلوب للتعامل معها.

ومن أجل ذلك كانت رسالة التعليم بشكل عام رسالة سامية لأنها تعمل على تربية البشر تربية نموذجية تجعل منهم أفرادا صالحين في أنفسهم وصالحين في مجتمعهم، ويسعون إلى تقدم أوطانهم ورقيها بين الأمم.

ولما كان المعلم هو القائم الرئيس على عملية التعليم، كانت المسؤولية على عاتقه كبيرة، لأنه يتعامل مع الطلاب بصورة مباشرة، ومن هنا احتاج هو أولا إلى إعداد وتأهيل ، إعداد يشمل نواحي كثيرة من أهمها: النواحي العلمية والمهارية والتربوية والسلوكية، وذلك بتمكينه من العلم الذي يدرّسه حتى يكون ضليعا فيه ، وتدريبه على المهارات التي يحتاجها لنقل هذا العلم إلى الفئة التي يقوم بتعليمها، مع دراسة الجوانب النفسية والتربوية التي تعينه على التعامل مع طلابه بما يتناسب مع مستوياتهم العقلية والعمرية، هذا بالإضافة إلى اتصافه بالأخلاق الحميدة والالتزام بالنزاهة والاستقامة في السلوك والتصرفات.

إن الطلاب يراقبون معلمهم، وكثير منهم لديه قدرات عقلية عالية يستطيعون بها الحكم على معلمهم وتقييمه، لذلك كان على المعلم أن يملأ عيون طلابه بشخصيته الكاريزمية التي تجعلهم يعجبون به ثم يحاولون تقليده فيما يمتلكه من علم ومواهب وسلوكيات قيمة.

ومن هنا أصبح التعليم بالقدوة أحد أساليب التعليم الحديثة التي تدرس للمعلمين وذلك لأن إعجاب الطالب بأستاذه دافع للمتعلم للاقتداء به والاحتذاء بسلوكه.

ومعنى التعليم بالقدوة أن لا يكون العلم مجرد نظريات ومعلومات تحفظ وتخزن في الذاكرة، بل يترجم إلى تطبيق عملي يراه الطالب على أرض الواقع من خلال أستاذه الذي يطبقه أمامه ويمارسه سلوكا قبل أن يمارسه نظريا.

ولما كانت الأهداف التعليمية والتربوية تهدف إلى إكساب الطلاب الكثير من المعلومات والمهارات والسلوكيات كان على المعلم أن يدرُس ويحسِب كل تصرف يصدر منه لأنه يتوقع أن ينعكس أثر ذلك على طلابه، ولذلك نجد أن الكثير من الطلاب النابغين في علم ما أو في مهارات معينة أو في سلوك معين إنما هم انعكاس لمعلم نابغ كان أستاذا لهم في وقت ما في أحد هذه المجالات.

والتعليم بالقدوة ليس جديدا في هذه الأمة بل هو متجذر فيها منذ مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان هو نموذجا يحتذى ومثالا يقتدى به في جميع الأمور الدينية والدنيوية، مما ينبغي دراسته والوقوف عنده مليا لاستخلاص الدروس التي تعين على المضي على العمل بها حياتنا التربوية والعامة.

فإذا ما رجعنا إلى سيرته العطرة وجدناه خير قدوة لأصحابه بل وللأمة جمعاء، وقد نص القرآن الكريم على هذه القدوة العظيمة فقال سبحانه (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) فهو قدوة للخلق أجمعين ، قدوة في عبادته، وقدوة في أخلاقه، وقدوة في تربيته لأصحابه، والقدوة في العبادة كونه أسرع الناس إلى امتثال أمر الله في العبادات المفروضة والمندوبة، ففي الصَّلاة لم يكن يسمع النداء حتى يبادر إليها فإذا صلى كأنه لا يعرف من حوله ولا يعرفونه من خشوعه حتى ينفض من صلاته، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع وثلاثة أيام من كل شهر، وكان يحث أصحابه على التقرب إلى الله بصنوف العبادات، ويأمرهم بالاقتداء به في كيفية أداء الصَّلاة فيقول (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وفِي مناسك الحج كان يؤديها أمامهم ثم يقول (خذوا عني مناسككم) وكل ذلك يدل على كونه صلى الله عليه وسلم قدوة لأصحابه في هذه الأمور يتقدمهم في فعلها ثم يأمرهم بالاقتداء به والحذو حذوه حتى يقتربوا من أدائه عليه الصَّلاةَ والسلام.

ومع كونه أتقى الناس وأعبدهم لله إلا أنه كان مع ذلك وسطيا يعطي نفسه حقها مما أحله الله فينام ويقوم ويصوم ويفطر ويتزوج النساء ثم يقول (فمن رغب عن سنتي فليس مني) ليدلل أنه لا رهبانية في الإسلام وأن مفهوم العبادة يمكن أن يعم مختلف أعمال الخير ولا يقتصر على العبادات المعروفة. وأما في مجال الأخلاق فيكفي ثناء الله عليه لبيان أنه عليه الصَّلاةَ والسلام كان القمة العالية في الأخلاق التي لا تدانى ولا يبلغها أحد سواه ، فقد قال تعالى (وإنك لعلى خلق عَظيم) ومعنى ذلك أنه خير قدوة للناس في التعامل الإنساني وأنه كان مدرسة في الأخلاق ينبغي التعلم منها والتخلق بأخلاقها.

وأما في التربية فقد أثنى عليه سبحانه حينما قال: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) فمنذ مبعثه عليه الصَّلاة والسلام أخذ يعلم العرب الأميين الكتاب والحكمة التي كانوا في غفلة عنها ويزكيهم أي يربيهم على الفضائل والشمائل الحميدة حتى تزكو نفوسهم فتعلو على الحيوانية والشهوانية لترقى إلى الإنسانية والملائكية، وقد كان عليه الصَّلاة والسلام قدوتهم في كل ما يعلمهم إياه ويربيهم عليه.

ومن هنا خرّج جيلا من الصحابة عز أن يأتي الدهر بمثلهم ، فكل واحد منهم مدرسة في الإيمان والعمل الصالح والعلم الواسع كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس وخالد وأبي عبيدة ، فاستطاعوا أن ينشروا الإسلام في ربع قرن إلى مختلف أرجاء المعمورة، فظهر بذلك دين الله على سائر الأديان، كما سار على نهجم التابعون والأئمة والعلماء الصالحون في كل زمان ومكان، مما يصعب تقصيهم وتتبع سيرهم، وكل ذلك بسبب كون المربي الأول عليه الصَّلاة والسلام كان قدوة لهم في كل مناحي الخير التي يدعو إليها وكذلك كان أصحابه من بعده والعلماء المصلحون.

والمسلمون في كل زمان ومكان مطالبون بالسير على هدي رسولهم الكريم عليه الصَّلاةَ والسلام وعلى منهج أصحابه الكرام الذين أثر عنهم السيرة الحسنة والسلوك المستقيم، وتعظم المسؤولية على أولئك الذين يقومون بدور التعليم سواء في المدارس أم في الكليات أم في الجامعات، حيث أن المعلم في جميع مستوياته هو مصدر تلقي العلم والسلوك الحسن بالنسبة للطالب، فإذا ما تحلى المعلم بالعلم الواسع والمثابرة الجادة والإبداع المميز وتحلى بالأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن فإن تأثيره في طلبته بلا شك سيكون كبيرا، وسيدفعهم ذلك إلى التنافس والتميز والإبداع والابتكار والتخلق بالأخلاق الحسنة، أما إذا كان بخلاف ذلك فلا نتوقع من الطلبة أن يكونوا خيرا من معلمهم ، بل ربما كانوا أسوأ بكثير ، نظرا إلى أن العادات السيئة أقوى تأثيرا من العادات الحسنة، لأن النفس تميل إلى العادات السيئة أكثر من ميولها إلى العادات الحسنة، نظرا إلى ما في العادات الحسنة من مشقة وتكليف بينما العادات السيئة فيها تساهل ودعة، والنفس بطبيعتها تميل إلى ذلك.

هذا وإن الطالب في ميدان التعلم وخصوصا في سني تعلمه الأولى لديه رغبة بالغة في التقليد والمحاكاة ولذا فإن المعلم يتوقع من طلابه أن يقلدوه في ميوله واتجاهاته العلمية وتصرفاته السلوكية مما يجعله حذرا فيما يصدر عنه من كلمات وتصرفات قد تقع في نفس الطالب موقعا مؤثرا تؤدي به إلى أن يحتذي به قولا وفعلا، ولذا فإنه مطالب باختيار كلماته وضبط تصرفاته حتى لا يصدر منه إلا القول الحسن والفعل الحسن.

وأخيرا ننبه إلى أن التعليم بالقدوة لا يقتصر على مجال العلوم الإنسانية فحسب لكنه يشمل أيضا مجال العلوم البحتة، فالموضوعات العلمية التي يدرسها الطلاب في كتبهم على المعلم أن ينفذها أمامهم بالتجارب المخبرية وبما يخترعه أو يحاكي به بعض المخترعات المشهورة، حتى يعلم الطالب أن العلم له ثمرة لا تقتصر على الدرجات التي يحصل عليها في شهادته وإنما بما يقدمه من نفع للبشرية يتمثل في فكرة يمكن أن تتطور وتتجسد على أرض الواقع في صورة جهاز أو دواء أو اكتشاف يحقق مصلحة للناس يستفيدون منها زمنا طويلا.